م. محمد القطان
ما الذي يمكننا أن نفعله من أجل تحديد، وتنسيق، وتشجيع ورعاية التحولات التكنولوجية الأفضل؟ ما الأخطار التي تنشأ عن تحويل العالم، على نحو متزايد، إلى بيئة صديقة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات؟ هل التكنولوجيا التي لدينا تمضي باتجاه تمكيننا وزيادة قدراتنا، أم أنها ستُقيد وتحد ما لدينا من مساحات مادية وفكرية، وتجبرنا بهدوء على التكيف معها لأنها هي الوسيلة الفضلى، أو ربما الوسيلة الوحيدة، لتسيير الأمور؟ هل يمكن أن تساعد تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على حل مشكلاتنا الاجتماعية والبيئية الأكثر إلحاحا، أم أنها ستؤدي إلى تفاقمها؟ هذه التساؤلات الكبيرة هي جزء من التساؤلات المثيرة للتحدي التي تطرحها ثورة المعلومات التي أخذ بعض الباحثين يطلقون عليها الثورة الرابعة؛ نظرا إلى مدى التغير الكبير الذي أحدثته في معظم مجالات الحياة.
تساؤلات الثورة الرابعة
وهذه التساؤلات أيضا يطرحها كتاب جديد بعنوان (الثورة الرابعة: الغلاف المعلوماتي « الإنفوسفير» وتشكيل الواقع الإنساني) أصدره المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت ضمن سلسلته الشهيرة (عالم المعرفة)، وفيه يسلط الضوء على آفاق ثورة المعلومات، ويسعى إلى تحديد وشرح بعض القوى التكنولوجية العميقة التي تؤثر في حياتنا، وفي معتقداتنا، وفي أي شيء يحيط بنا.
والكتاب الذي ألفه الدكتور لوتشيانو فلوريدي وترجمه لؤي عبدالمجيد السيد يعالج الكيفية التي يتأثر بها إدراكنا لذواتنا بما لدينا من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الرقمية، والكيفية التي نتواصل بها بعضنا مع بعض، والكيفية التي يتشكّل بها عالمنا ونتفاعل معه، ولاسيما مع ظهور العديد من التقنيات والمفاهيم، مثل: تكنولوجيا النانو، وإنترنت الأشياء، والإصدار الثاني لتقنيات الشبكة العنكبوتية العالمية (ويب Web 2.0)، والويب ذي الدلالات اللفظية (الويب الذكي)، والحوسبة السحابية، وتطبيقات الهواتف ، ونظام تحديد المواقع، والطابعات الثلاثية الأبعاد، والحرب السيبرانية .
ويرى المؤلف أن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لم تعد مجرد أدوات للتواصل والتفاعل مع العالم ومع بعضنا بعضا فقط ، بل صارت قوى بيئية وأنثروبولوجية واجتماعية وتفسيرية، تَخلق وتُشكل واقعنا الفكري والمادي، وتُغيّر فهمنا لذواتنا، وتُحور الكيفية التي تربطنا بعضنا ببعض، كما تربطنا بذواتنا، وتُحسن من كيفية تفسيرنا للعالم من حولنا، وكل هذا يجري بصورة واسعة الانتشار، وبعمق، وبلا هوادة.
إن العصر الحالي يشهد انتقالا من التأريخ إلى التأريخ المفرط. فمجتمعات المعلومات المتقدمة يتزايد اعتمادها أكثر فأكثر على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لأداء عملها الاعتيادي ولتحقيق النمو، وستتزايد قدرة المعالجة، في حين أن أسعارها ستنخفض؛ وسيبلغ كم البيانات قدرا لا يمكن تصوره، وستنمو قيمة فائدة الشبكة الحاسوبية نموا يكاد يكون عموديا. على الرغم من ذلك، فقدرتنا على التخزين (المكان) وسرعة اتصالاتنا (الزمان) تتخلفان عن الركب. والتأريخ المفرط هو حقبة جديدة في تطور البشرية، لكنه لا يتجاوز القيود المكانية والزمانية التي تتولى، على الدوام، تنظيم حياتنا على هذا الكوكب، وفق ما يقول المؤلف في خاتمة الفصل الأول الذي عنونه ب(التأريخ المفرط).
الحياة الدائمة الاتصال
ويرى الكتاب بعد مناقشة الفصل الثاني المعنون (المكان: الإنفوسفير) والثالث المعنون (الهوية: الحياة دائمة الاتصال) أن لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات قدرة هائلة على إتاحة المعلومات؛ وهي أقل نجاحا في التمكين من الوصول إلى المعلومات، وهي حتى أقل من ذلك نجاحا في تمكيننا من استخدامها. إن مزيدا من إتاحة المعلومات وإمكان الوصول إليها بشكل أفضل هو قضايا تقع على عاتق مقدمي المعلومات، لكن إنتاج وتصميم المعلومات في بداية عملية الإتاحة، وسهولة استخدام وفهم المعلومات التي يمكن الوصول إليها في نهاية عملية الإتاحة، هي قضايا تنطوي على قدر التعليم الذي يتلقاه الشخص المعني .
فهم الذات
يناقش الكتاب في الفصل الرابع مفهوم الثورات الأربع التي يرى أن الثلاث الأولى شهدتها البشرية خلال القرون القليلة الماضية، وتتمثل أولاها في الثورة الكوبرنيكية المعنية بعلم الكون والفهم الجديد له، فيما تتمثل الثانية في الثورة الداروينية المتمثلة في نظرية التطور والنقاشات التي دارت حولها، في حين تمثلت الثورة الثالثة في النظرية الفرويدية المتعلقة بآراء التحليل النفسي ونظرياته والجدالات المحتدمة حوله. ويرى أن الثورة الرابعة هي ثورة المعلومات التي نعيشها حاليا. ويستنتج أن (الحياة الثانية) المعتمدة على ثورة المعلومات وتطبيقاتها الإلكترونية الحديثة ينبغي أن تكون جنة لعشاق صيحات الموضة من جميع الطُرُز، ليس فقط لأنها توفر نظاما أساسيا مرنا ليستخدمه المصممون والفنانون المبدعون، بل لأنها أيضا السياق المناسب حيث يكون لدى النفس الرقمية شعور شديد بأهمية الحصول على دلائل مرئية للهوية الذاتية.
ويناقش الكتاب في الفصل الخامس موضوع (الخصوصية: الاحتكاك المعلوماتي) ويتطرق إلى نظريتين شائعتين بشأن قيمة خصوصيتنا، هما: التفسير الاختزالي والتفسير القائم على الملكية. أما الفصل السادس فيتناول الذكاء العام والاصطناعي، في حين جاء الفصل السابع بعنوان (الوكالة: تغليف العالم)، والثامن بعنوان (السياسة: ازدهار الأنظمة متعددة الوكلاء)، فيما تطرق الفصل التاسع إلى المخاطرة الرقمية وتداعياتها على البيئة ، ويختم المؤلف الكتاب بفصل عاشر يبحر فيه في أخلاقيات التعامل مع ثورة المعلومات، وإمكان صوغ إطار أخلاقي يمكنه التعامل مع الغلاف المعلوماتي (الإنفوسفير) على أنه بيئة جديدة جديرة بأن تكون موضع الاهتمام الأخلاقي.
قيادة العالم
إن تكنولوجيا المعلومات تقود العالم في معظم الميادين، وتتحكم في معظم مجريات الأمور فيه. وتخلق بيئة معلوماتية جديدة ستقضي فيها الأجيال القادمة معظم وقتها. وسيكون العالمَ في ورطة خطيرة، إن لم يأخذ مأخذ الجد حقيقة مفادها أننا نبني البيئات المادية والفكرية الجديدة التي ستسكنها الأجيال القادمة.
ويرى المؤلف أنه في ضوء هذا التغير المهم في هذا النوع من التفاعلات الذي يحدث بوساطة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي سننعم بها على نحو متزايد في تفاعلاتنا مع غيرنا من العناصر الوسيطة (الوكلاء)، سواء كانت بيولوجية أو اصطناعية، وهذا التغير في فهمنا الذتي، فإن المقاربة البيئية هي، فيما يبدو، الوسيلة المثمرة لمواجهة التحديات الأخلاقية الجديدة التي تطرحها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وهي مقاربة لا تحتفي بما هو طبيعي أو بكر، لكنها تتعامل مع كل أشكال الوجود والسلوك باعتبارها أصيلة وحقيقية، حتى تلك التي تقوم على الأدوات الاصطناعية، والتخليقية، والمهجنة، والمُهندسة.
ويتعين أن يتصدى مثل هذا الإطار الأخلاقي للتحديات غير المسبوقة التي تنشأ في البيئة الجديدة وأن يجد لها حلا. وينبغي أن يكون الإطار الأخلاقي أخلاقيات بيئية إلكترونية من أجل الإنفوسفير برمته. وهذا النوع من النزعة البيئية التركيبية سيتطلب تغييرا في كيفية إدراكنا لأنفسنا ولأدوارنا بالنسبة إلى الواقع، وما الذي نعتبره جديرا باهتمامنا ورعايتنا، وكيف سنتفاوض لعقد تحالف جديد بين الطبيعي والاصطناعي.