د. نزار العاني
في الجانب العربي أيضاً تتآزر جهود مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، مع المنظمة العربية للترجمة، واللجنة العلمية لسلسلة التقنيات الاستراتيجية والمتقدمة، ومركز دراسات الوحدة العربية كموزع، ومترجم مقتدر هو عبد الله مجير العمري وثلاثة مراجعين للنص لتظهير الكتاب، مما يبشّر بولادة فلسفة تحرير الكتاب العلمي من بوتقة الفردانية ليكون أنموذجاً لعمل الفريق.
بين يدي الكتاب
وهذا الكتاب المكون من نحو 300 صفحة يضم تسعة فصول وثلاث مقدمات لرئيس مدينة الملك عبدالعزيز وللمترجم والمؤلف، وهو زاخر بعشرات الصور النادرة المأخوذة من أرشيف الجامعات الكبرى والهيئات البحثية الكبرى.
جاء الفصل الأول بعنوان (كشف همسات الجسم)، ويعرض المؤلف فيه أعمال الطبيب الفرنسي رينيه ليناك René Laennec وتحقيقه لاختراق تكنولوجي (تقاني) واختراعه للسماعة الطبية عام 1816م، وهو الاختراع الذي «غيّر تشخيص الدَّاء تغييراً أساسياً، وبدّل هوية الطبيب، وغيّرتجربة كون الإنسان مريضاً، وغيّر الطب إلى الأبد». وهذه الانعطافة نقلت تشخيص المرض من الكلمات الوصفية إلى رصد الوقائع والمظاهر المادية المرافقة للمرض ورؤية الجسم بوساطة الأجهزة. ويسرد المؤلف بشيء من التفصيل حكاية المحطات التاريخية التي تطور عبرها علم الطب من الملاحظة السريرية الوصفية إلى التوثيق الذي تحسمه تكنولوجيا التشخيص كالسماعة.
أما الفصل الثاني وعنوانه (الصورة المُلغِزَة) فيتحدث عن قفزة تكنولوجية كبيرة تتجاوز سماع همسات الجسم وتنتقل إلى تصوير المكونات الداخلية والبنى التشريحية له بوساطة الأشعة السينية التي أدخلت الطب إلى العصر المرئي. صاحب هذه القفزة كما هو معروف فيلهلم رونتغن Röntgen أستاذ الفيزياء في جامعة فورتسبورغ الذي نشر صورة يد التقطت بالأشعة السينية عام 1895م فأذهلت العالم، كما فعل اختراع المجهر (الميكروسكوب) في القرن السابع عشر، إذ إنه كان الخطوة الأولى لاختراق الغلاف الخارجي للكائنات والدخول إلى صميمها ووسيلة الطب الثورية آنذاك لرصد الكائنات الدقيقة والميكروبات. وبعد اكتشاف الأشعة السينية لم يعد من المقبول، كما كتب هنري كاتل عام 1896م، أن يجري طبيب جرّاح «نوعاً معيناً من العمليات من دون رؤية مجال عمله مصوّراً بهذه الأشعة قبل البدء بهذه العمليات». قوة الصورة تمسك بالواقع الموضوعي خلافاً للرسوم التي كان يتخيلها أو ينقلها علماء التشريح ورؤيتهم لأجسام الموتى. بالتكنولوجيا أصبح «الطب علماً» كما يقول المؤلف.
الكلى الاصطناعية
نسير خطوة إلى الأمام ونقرأ الرواية الكاملة لإنجاز تكنولوجي طبي رائع يتعلق باختراع «الكلى الاصطناعية» وهو مادة الفصل الثالث، وكان الإنجاز الذي أنقذ وينقذ الآلاف من خطر الموت. لا يعزى هذا الإبداع التكنولوجي إلى شخص بعينه مثل السماعة والمجهر والأشعة السينية، إنما هو تراكم علمي لجهود العديد من العلماء والأطباء التي بدأت مع التفكير الفذ للهولندي فيللم كولف Kolff في محاولته اليائسة لمعالجة مريض كان يحتضر ويعاني فشلا كلويا، وسعيه إلى إزالة كمية من البول يوميا.
وبتضافر بحوث الكيميائي توماس غراهام حول التناضح والقوة الأُسموسيّة والديلزة – التي تعني فصل الجزيئات الكبيرة من سائل عبر تمريره من خلال أغشية، وتطوير هذه الأغشية – أفضت التجارب والأبحاث التي انطلقت مع إطلالة القرن العشرين واستمرت حتى أواسط القرن إلى تصميم الكُلية الاصطناعية، وساعدت ظروف الحرب العالمية الثانية على تطويرها بسبب كثرة المرضى.
وأثمرت دراسات الأغشية ومزاياها بدءاً من السيلوفان إلى مثانة الخنزير والمشتقات السللوزية والتفلون، مروراً بانتقال العمل الفردي إلى المؤسسي الحكومي والمخصخص، ووصولا إلى الجوانب الاقتصادية، إلى كلفة الغسل الكلوي وتطوير قدرة الآلة والجهاز وزيادة إمكاناته، وصار بإمكاننا حاليا القول إن هذا الإنجاز وصل إلى حدود الكمال.
الرئة الحديدية
الفصل الرابع يتطرق إلى تكنولوجيا فتحت الباب لنقاش معقد مايزال محتدماً وهو جهاز التنفس الاصطناعي الذي يبقي بعض المرضى «معلقين في فراغ بين الحياة والموت» بعد استعصاء شفائهم، وهو نقاش أخلاقي وديني لا نحيد عن درب العلم لنتناوله هنا.
وفكرة هذا الجهاز قامت منذ القرون الوسطى على يد أندرياس فيزاليوس الذي شرح لنا «تجربةً على حيوان حافظ على حياته بمنفاخ طبّق من خلاله ضغطاً موجباً متقطّعاً لنفخ الرئتين»، وتدرج بعد ذلك ظهور الأدوات الكفيلة بفعل ذلك، مثل الأنبوب والمروحة حتى وصلنا إلى الأجهزة الدقيقة التي تحسنت وتطورت كثيرا لأداء الإنعاش التنفسي بشكلٍ مُرْضٍ، وأنقذ الجهاز الذي يمكن التحكم في عمله المنتظم لمدة زمنية طويلة، ويخضع لإمكانية ضبط معدل التنفس وعمقه دون مشقة أو أذى الكثير من مرضى شلل الأطفال، وأطلق الصانع لهذا الجهاز تسميةً اشتهرت والتصقت به وهي «الرئة الحديدية» Iron Lung. وساهمت هذه التكنولوجيا في إبقاء أفراد ميؤوس من شفائهم على قيد الحياة ولكن في حالة من اللاوعي والغيبوبة أشبه بالموت لفترات امتدت لسنوات، وكذلك لبعض المرضى الذين أجريت لهم عمليات غير ناجحة لزرع الأعضاء، ومن قلب هذه الحالة انبثق مصطلح «الموت الرحيم» وجرى تداوله وثار النقاش الجدي حول تعريف الموت، وإطالة عملية الاحتضار، ووضع التشريعات الناظمة أخلاقياً ودينياً لهؤلاء المعلقين بين الحياة والموت.
وأفرد المؤلف الفصل الخامس لمتابعة تاريخ سجلات المرضى في أمريكا وتبويبها وتنظيمها وفحواها ودورها في تأسيس قاعدة بيانات إحصائية ترفد علم الطب بكثير من الفوائد والمنافع.
بدأت مسيرة التوثيق هذه عام 1821م في مستشفى ماساتشوستس العام ببوسطن. يصف والتر كانون في الكتاب هذه المدونات الطبية بأنها «مفاتيح لتعلم الطب»، وهي حقيقة ماثلة أمام كل طبيب، فهي بما تنطوي عليه من معلومات حول الأعراض والدلائل السريرية والتشخيص والعلاج تشكل المبدأ الأساس لتلافي الأخطاء الطبية والسير المنهجي في الطريق الصحيح.
ووفرت التكنولوجيا الحديثة ودخول الحاسوب في بدايات ستينيات القرن الماضي وانتقالنا إلى البرمجيات والفضاء الرقمي والفيديو ذخيرة إضافية لتقدم الطب والعناية بالمرضى وتقليل الأخطاء المُرْتكبة، مما دفع ريموند بيرل إلى القول: «الطب سيصبح علماً دقيقاً إذا استعمل مناهج كمّية للتفحُّص الإحصائي لعدد كبير من الحقائق الموضوعية وغير الموضوعية».
أما الفصول الأربعة الباقية فينتظمها خيط واحد يبدأ بالترتيب من محاكمة التكنولوجيا (السادس)، وانتصاراتها (السابع)، والتحول التكنولوجي للولادة (الثامن) وأخيراً التحكم في إمبراطورية الأجهزة (التاسع)، ومن خلالها نقرأ قصة مفصلة غاية في التشويق عن مسيرة الطب من الفصد الذي استخدمه أبقراط قبل 2500 سنة إلى جراحة زراعة الأعضاء، مروراً بالتخدير والسونار والموجات فوق الصوتية، ليقول المؤلف إن أعلام وبيارق التكنولوجيا هي التي ترفرف وتخفق اليوم فوق أسوار قلعة الطب وصرحها العالي.
إن انتصار الطب على المرض كان نتيجة لتراكم المعرفة والخبرة والتجربة في مجال التشخيص والمداواة، ووراء كل مرض، من نزلات الرشح العادية والصداع وإلى السل والسرطان، تؤكد البحوث أن التكنولوجيا كانت الرافعة الحقيقية لتطوير وتجديد مفاهيم الطب وأساليبه، وهي موضع الرهان في مستقبل الطب. صار الطب يتعكّز على أدواته، وكان شعار ثورة الطب هذه خلال ثلاثة آلاف سنة هو «من التخمين إلى اليقين»، ومن لون لسان المريض إلى التشريح الخلوي، ومن السماعة إلى المسح الوراثي للجينوم. وما كان لهذه الثورة المستمرة والطموحة أن تتحقق دون معونة التكنولوجيا، بدءاً بأبسط صورها وهي استخدام القفازات الطبية لتجنب التلوث الجرثومي، وصولاً إلى أكثرها تعقيدا وهي التصوير المحوري الطبقي.