الدرَّاجة الهوائية.. اكتشاف أقصى الحصان عن عرشه!

محمد ياسر منصور

في عصرنا، عصر السرعة، الذي تتميَّز فيه وسائط النَّقل بزيادة قوّتها وسرعتها، يُخيَّل للمرء أن هذه الأميرة الصغيرة ـ الدراجة الهوائية ـ أصبحت شيئاً من الماضي بعد أن تَجاوزها عصر السرعة. بَيدَ أنها بِرِخص ثَمنها، وسهولة استخدامها، ومصروفها شبه المجَّاني، ما زالت تستهوي أفئدة الكثيرين، منذ ظهورها في القرن التاسع عشر وحتى الآن. إضافة إلى ذلك، أصبحت هذه الوسيلة في المدن الكبرى، المُنقذ الرئيسي من مشكلة التلوث والازدحام الناتجة عن السيارات والحافلات الكبيرة.

– في 5 أبريل(1818), تزاحَمَ أكثر من 3500 شخص من سكَّان باريس في حديقة اللوكسمبورغ لاكتشاف آلة غريبة : آلة بدولابين تسير على الأرض بوساطة حركة الساقين. ومن فيينا إلى لندن ثم إلى أوروبا كلها, كانت أخبار هذه الآلة حديث الأوساط كافَّة , وكان الجميع يتهامسون: للحصول على حصان يجب دفع 40 جنيهاً ودفع 40 جنيهاً أخرى لمتطلَّباته. لكن في المقابل , لا تكلٍّف الدراجة سوى عشرة جنيهات!.

– ظهرت فكرة الدراجة للمرَّة الأولى في تصميم هندسي رَسمه الفنان الإيطالي ليوناردو دافينشي عام 1493م , وكان محفوظاً في إحدى مكتبات مدينة ميلانو. وأول دراجة تمَّ صنعها في فرنسا في عام 1791 حين ظهرت دراجة على هيئة حصان خشبي يتحرَّك بعجلتين مصنوعتين من الخشب. وكان الراكب يمتطيها وكأنها حصان ويدفعها من خلال دفع قدميه على الأرض، وكان يتكىء بيديه على مَسند فوق العجلة الأمامية.

– ويُعدّ عام 1817 م تاريخاً لظهور أول محاولة جادّة لإنتاج دراجة عملية تُستخدم كوسيلة انتقال، وأنجزها البارون الألماني كارل فريدريش دريس(1785_ 1851)م, وسار بها قاطعاً مسافة 14 كلم. وبعد عام واحد فقط انتشر استخدامها في فرنسا , وكانت دراجات ذلك النوع تتكوَّن من عجلتين من الخشب , يحيط بهما إطاران من الحديد , ولها سِرج كسرج الحصان , وتُستخدم العجلة الأولى في تغيير اتجاه سيرها , وتبلغ سرعتها 16 كلم في الساعة.

– ومرَّ تطور صناعة الدراجة بمراحل عديدة متتالية من النجاح والتراجع , فكانت أحياناً تُزوَّد بشراع لتدفعها الرياح, وأحياناً تُزوَّد بفانوس لإنارة طريقها، وتارةً بمظلَّة لحمايتها من أشعة الشمس أو حبَّات المطر , وتارةً تُصبح بثلاث عجلات, وأخرى بأربع عجلات , وهكذا… الى أن تُوِّجت في عام 1868 م بظهور أول دراجة ذات إطارين من المطاط، وتحمل كثيراً من مواصفات الدراجة التي نستخدمها في الوقت الحاضر.

– ونُظِّم أول سباق للدراجات في 18 ديسمبر عام 1867 ولاقى نجاحاً كبيراً، وكان ميدان السِّباق يمتد من شارع الشانزليزيه حتى قصر فرساي بباريس، وكان عدد المتسابقين نحو مئة متسابق، وأوَّل الأبطال الذين تُوِّجوا في هذا السِّباق كان البريطاني «جيمس مور»، الذي فاز أيضاً بعد سنتين بسباق باريس ـ

– اللمسات الأخيرة التي أُدخلت على الدراجة، كانت بفضل الطبيب البيطري «جون بويد دنلوب»، من بلفاست، الذي خَطَر في بَاله أن يُضيف إلى العجلات المعدنية إطاراً مطاطياً يُملأ بالهواء، وطبَّق ذلك على دراجة ابنه ذات العجلات الثلاث، وكان الاختراع ناجحاً جداً، وسجّل هذا الاختراع في عام 1887، وكان آخر التحسينات الأساسية التي أُدخلت على الدراجة بشكلها الحالي.

– وبعد مئة سنة من اختراع البارون الألماني «دريس» للدراجة، وبعد مئة سنة من التطوير, ومع بداية القرن العشرين للميلاد , أصبحت دراجة دريس وسيلة انتقال رخيصة الثمن , واسعة الانتشار في كثير من دول العالم. و تمكَّنت من إرسال الحصان إلى الاصطبل لِتُسارِع هي لِنهب الطرقات في أرجاء العالم قاطبة!.

التوازن أمام امتحان صعب

لا يُدرك معظم من يمتطون سِرْج الدراجة آلية التوازن، ومعظم الأخطار التي تُحدق بهم عند فِقدان التوازن من جَرَّاء فِقدان القوى التي تُحافظ عليهم فَوق السِّرج. إن انعطاف راكب الدراجة امتحان حقيقي لممارسة التوازن. فعندما ينعطف الراكب بالمقود يُعرِّض نفسه لقوَّتين أساسيتين تُؤثِّران فيه: الأولى قوّة الاستمرار، وهي التي تدفعنا نحو الأمام وترفض انعطافنا، والثانية جاذبة (عكس النابذة) تجذبنا نحو مركز دائرة الدَّوران، وتُمارِس هذه القوّة تأثيرها في أسفل العجلة الأمامية للدراجة التي تجذبنا إلى داخل قوس الدَّوران. والنتيجة هي أن رأس راكب الدراجة يندفع إلى الأمام، فيما العجلة الأمامية تُريد الانعطاف. وبتعبير آخر، يمكن القَول إن الدراجة تُريد الانقلاب في الجهة المعاكسة لقوس الدَّوران، وهذا ما يسمَّى بتأثير «القوَّة النَّابِذة». والمسألة إذاً تقتضي تعديل فقدان التوازن المذكور، لذا يعمد سائق الدراجة إلى الانحناء نحو داخل قوس الدَّوران.

التدويس مُخاطَرة حقيقية للدماغ

ركوب الدراجة والتدويس (تحريك الرجلين) أمر غير عادي. فعندما يعتلي الإنسان صهوة الدراجة، يبدأ الدماغ بِحَثّ الجسم على بَذل جهود مضنية، لأن هناك إيقاعاً مثالياً في حركة السَّاقين. وعندما يسير المرء، فإنه يتبع غريزياً إيقاعاً مثالياً في مَشيته ليستهلك أقلّ قَدر ممكن من الطاقة. والشيء نفسه يحدث في أثناء الجَري. لكن عندما يركب الدراجة، فالوضع يختلف. وحتى الرياضيون لا يشذُّون عن هذه القاعدة. فهم لا يتمكَّنون من اتِّباع الإيقاع الأفضل في أثناء تدويسهم. والمتسابقون تدور أرجلهم بسرعات كبيرة قد تبلغ 110 دورات في الدقيقة، في حين أن الوضع الأمثل نَظريَّاً يبلغ نحو 70 دورة في الدقيقة. وعموماً يبدو أن دماغ من يمتطي الدراجة يدفع الجسم إلى الإنهاك قبل الأوان، لأنه فَقدَ بعض سِماته وفَقدَ السيطرة على الجُهد المبذول.

وقد أَوصى كريستوف هوسويت وهو باحث في المعهد العالي الوطني للتربية البدنية، بتدريب خاص للمتسابقين الذين سيخوضون المباريات. وهو بدقَّة: عَدم تربية العضلات من خلال صعود المرتفعات لإرغام الجسم على التدويس بقوة، وكذلك عَدم التدويس السَّهل. وكانت النتيجة مدهشة. فَفي تدريب للتدويس استمرَّ ساعتين، بَدأ عدد من المتسابقين بإيقاع تدويس يفوق 90 دورة في الدقيقة وانتهوا بتدويس مُنهِك بلغت سرعته 50 دورة في الدقيقة. والواقع، أنه بعد التدريب الخاص، كان الإيقاع الذي وَقَع عليه الاختيار هو 80 دورة في الدقيقة، ولقد حافَظَ المتسابقون على هذا الإيقاع طوال ساعتي التدريب تقريباً دون أن تنخفض وَتيرته. وهذا بُرهان على أن المرء بطبيعة تكوينه الأساسي لم يُخلَق ليركب الدراجة. ولهذا السَّبب فإن هاتين العجلتين على الرغم من بساطتهما الظاهرية، تطرحان تحدياً حقيقياً لخلايا دماغنا، الذي لم يُخلَق أَصلاً ليركب الدراجة ويتوازن فَوقها.

التوازن والبُعد الثالث

التدويس تعبير عن التوازن، وامتلاك زمام التوازن على الدراجة أمر لا مَثيل له. ولهذا نجد أن الطفل يتمكَّن من المَشي واللعب المتوازن وعمره في حدود السَّنة، لكنه يجب أن يبلغ الخامسة من عمره وسطياً حتى يتمكَّن من التوازن على دراجة بِدولابين، فلماذا؟ في الواقع، يبدو المَشي أَمراً وراثياً. من ناحية ثانية، يبدو أن الخطوات الأولى ترجع إلى عملية آلية يمرّ بها الإنسان أكثر ممَّا ترجع إلى حركة تتطلَّب تفكيراً. أمَّا في الدراجة فلا شيء من هذا كله؛ لأن شروط التوازن مختلفة، بل ومتناقضة مع ما نتعلّمه من المشي. ففي التوازن على الدراجة يجب أن نتأرجح أو نتمايل يُمنَةً ويُسرَة في حين يتطلَّب منَّا المشي حركة تأرجح نحو الأمام والخلف من أجل التوازن. ومن الضروري تسريع سَيْر الدراجة ليكون المرء أكثر توازناً وثَباتاًَ. وعلينا أن نتعلَّم توجيه المِقوَد أثناء الانعطاف، وأن نتلاحم مع الدراجة ونَنحني معها في أثناء الانعطاف والدوران، وإلاَّ تعرَّضنا لفقدان التوازن الأولي. وباختصار، تعمل الدراجة على إدخال شكل جديد من التوازن والسيطرة عليه، يستحق التفكير فيه أكثر من التوازن المُكتَسَب في المشي والوقوف. إنها سيطرة تتطلَّب بادِئ ذي بِدء زَجّ الفِكر في أبعاد ثلاثة (الأبعاد الثلاثة هي: الطول العرض ـ الارتفاع أو العمق)، ويرى المختصُّون في عِلم الإدراك أن الأطفال لا يبدو عليهم اكتساب هذه الأبعاد إلاَّ عند بلوغهم خمس سنوات من العمر تقريباً.

غير أن ممارسة ركوب الدراجة – إذا كانت تستنفر دماغنا إلى هذا الحدّ – فلماذا لا ننسى هذا الاستنفار كما ننسى قصيدة استنفرنا دِماغَنا في حِفظها؟.

إن هذا السؤال يجعل المختصِّين في عِلم الأعصاب يقعون في الحَيرة. فَهُم يعتقدون , مع ذلك , أن قيادة الدراجة تَستخدم على الأرجح الأُسس الفيزيائية نفسها التي يستخدمها المشي, وهي والحالة هذه من الأوامر الصادرة عن «المولِّد الشوكي», وهو تيَّار عصبي مقرّه في النخاع الشوكي يعمل عَمل حاسوب صغير. فهو يُدير مختلف برامج المشي المسجَّلة لديه سابقاً. وهكذا نجد أنه من خلال التكرار والمثابرة قد يُصبح التدويس والتوازن نَشاطين منعكسين (تلقائيين) تماماً.

كما يرى علماء العمل الحركي النَّفسي (وهو العمل العضلي الناشئ عن عمل نفسي) أن الأطفال يفشلون في معظم الأحيان في قيادة الدراجة ذات الدولابين، لأنهم ما زالوا يركِّزون بإفراط على التدويس وحركة الساقين، في حين أن المطلوب لتحقيق التوازن والسيطرة على حركة الدراجة هو ضرورة رفع الرأس والاتجاه بالنَّظر إلى الأمام. ولهذا السَّبب، فمن الضروري أن يقود الطفل في البداية دراجة بثلاث عجلات تُحقِّق له التوازن تلقائياً.

 

Exit mobile version