د. ناديا رتيب
هنالك وسائل عديدة تتمكن اللغة بواسطتها من التأثير على الفكر البشري وإيصال المعلومات إليه، ولعل من أهمها ترميز تمثيل المخططات التي تعد نوعا من الحديث الداخلي عند الأطفال.
واللغة في هذا الشأن ترميز شديد الفعالية؛ لأنها تغطي عدداً كبيراً من المعارف عن البيئة المحيطة بالفرد، إذ تتمكن اللغة عن طريق ذلك الترميز من تكثيف أي مخطط من خلال تحجيمه إلى أبعاد قابلة للتنظيم.
إن للحديث الداخلي عند الطفل ونوع التفكير أهمية كبيرة في نوعية حياته في مرحلة الطفولة وفي مستقبله أيضا.
وقد أجريت دراسات عديدة عن دور الحديث الداخلي عند الأطفال، لعل أهمها دراسة الروسي فيجوتسكي المختص بعلم النفس في كتابه عن النمو الإدراكي. لقد اكتشف فيجوتسكي أن الطفل يصل إلى مرحلة مهمة لهذا النمو في اللحظة التي يصبح فيها قادراً على التصرف حسب التعليمات الشفهية لشخص آخر. وفي المرحلة التالية يبدل الطفل أقواله الخاصة محل أقوال الآخرين، وأخيراً تختفي هذه الأقوال بمقدار ما يكتسب الطفل،ظاهرياً، ملكة استبطان حديثة.
الحديث مع اللعب
وبصورة عامة يتحدث الأولاد الصغار إلى أنفسهم بشكل مستمر عندما يلعبون وحدهم، لكنهم بعد ذلك يستبطنون هذا الطراز من الفكر.وفي المرحلة التي يتعلم فيها الأطفال استبطان الحديث (نحو سن الخامسة) يمكننا أن نراهم أثناء امتحان حل المسائل وهم يخاطبون أنفسهم بصمت عن التعليمات في اللحظات الحرجة.
وقد أظهرت دراسات فيزيولوجية إمكان اكتشافنا، حتى عند البالغين، حركات بسيطة للعينين واللسان والحبال الصوتية أثناء حل المعضلات العسيرة، إذ يتطلب الحديث الذاتي -كما يبدو – مساهمة الأعضاء المحركة لجهاز اللغة.
وظائف ضابطة
وأكمل الباحث لوريا أعمال فيجوتسكي في دراسته عن الوظائف الضابطة للحديث عند الأطفال، فقد لاحظ أن طفلاً في الشهر الخامس عشر من عمره يرتكس بشكل دقيق على جمل من مثل «أعطني دبّك»، وذلك إذا كانت لعبة أخرى ذات لون صارخ قد وُضعت قريبا من الدب، فنرى الطفل حينئذ يبدل فكرته فجأة ويمسك اللعبة الجديدة، فالجاذبية التي تفرضها اللعبة المجهولة تسبب شرود الطفل عن رغبته الأولى.
كذلك إذا طُلب من طفل في شهره الثامن عشر يقوم بتلبيس حلقات على عصا، أن يخلعها قبل أن يُكمل تلبيس كل الحلقات، فإننا نراه يضاعف جهوده للاستمرار في تلبيس الحلقات، ليس بهدف التحدي كما كان يُظن، بل لأنه لا يتمكن من إعادة النظر في مخططه الابتدائي للعمل.
وتظهر الأبحاث وجود ارتباط قوي بين المناطق الجبهية وإنتاج الحديث الداخلي عند الأطفال. كذلك فإن المنطقة الجبهية مرتبطة بشدة بتنظيم السلوك وبوظائف التخطيط في الفصين الجبهيين.
مقارنة علمية
عند مقارنة سلوك الطفل بسلوك مرضى الفص الجبهي، نجد أنه يمكن للتعليمات الشفهية أن تثير تصرفاً عند الولد لكن لا يمكنها أن تتوصل بسهولة إلى صيانته وإرشاده.
وقد بين لوريا التوازي بين سلوك هؤلاء الفتية من الأطفال ذوي الفصوص الجبهية غير مكتملة الاشتغال حتى الحين وسلوك المرضى ذوي الإصابات في الفص الجبهي. وتتضمن هذه المشكلة عدة وجوه :
أولاً – قد يكون الأمر متعلقاً بوجود انقطاع بسيط في الرقابة الشفهية المحصورة بدوافع أشد قوة مثل منعكس الاهتداء، كما هي في حالة الطفل الشارد باللعبة الملونة، كذلك فإن مبتوري الفص الجبهي ينفكون بسهولة عن مخططاتهم الابتدائية.
ثانياً-قد تخفق التعليمات الشفهية في السيطرة على رقابة الفعل أو نقله إلى مستوى يجري تنفيذه فيه، وهذا ما يُشاهد عند مبتوري الفص الجبهي، فالمريض يبدو ظاهرياً عاجزاً عن إيقاف عملية معينة ليبدأ بتنفيذ بقية مخطط عمله، فهذا مماثل لمواظبة الولد الذي يستمر في تلبيس الحلقات على العصا.
ثالثاً- ربما نخفق في التحقق من نتيجة عمل تتبع المخطط البدئي. وهذا الأمر قد يؤدي إلى وجود فوارق بين المستوى الشفهي والتصرف، حتى لو تذكر المريض التعليمات الشفهية.
إن ملكات اللغة تشكل في الدماغ البشري وسيلة فعالة للتحكم في الفكر والتصرف وتنظيم ذلك، وقد يكون تخريب هذه القدرة كارثيا بالنسبة للتنظيم الذهني.
الحديث الداخلي والسلوك
إن الطفل الذي تكون لديه أحاديث داخلية عقلانية يمتلك سلوكيات سوية، أما الطفل الذي تكون أحاديثه الداخلية غير عقلانية فيمتلك سلوكيات مضطربة وغير سوية.
إن ما يحدد نوع الأحاديث الداخلية عند الطفل هو التعليمات التي يصدرها الكبار للطفل، مثل «يجب ألا تفعل ذلك الأمر وإلا لن نحبك. إن حبنا لك أمر ضروري جدا». إن تعليمات وجوبية من هذا النوع تعلم الطفل أحاديث داخلية وجوبية حتمية، فيقول لنفسه مثلاً: «يجب ألا أفعل أمورا تضايق من أحب وإلا لن يحبوني، إذ يجب – حتماً –أن أحصل على حبهم»، وهذا النوع من الأحاديث الداخلية يعد لاعقلانيا، ويرتبط بوجود سلوك مضطرب عند الطفل.
أما عندما يوجه الكبار الطفل بتعليمات تفضيلية غير وجوبية فيكتسب الطفل حديثا داخليا تفضيليا غير وجوبي «المرغوبية»، مثلاً: «من المفضل ألا أقوم بأمر يضايق أمي، إنني أرغب كثيراً في أن تحبني»، وهذا يؤدي إلى اكتساب سلوك سوي غير مضطرب، فهو في هذا المثال يتقبل موقف أمه إذا غضبت منه، فحبها له أمر مرغوب فيه وليس حتميا في تفكيره وأحاديثه الذاتية، فهو لن يعتبر عدم حبها له أمرا كارثيا أو نهاية العالم.