عبدالله بدران
على النقيض مما قد يتصوره معظم الأشخاص، فإن الجبال تمثل نظما بيئية هشّة؛ إذ ان الطبيعة العمودية للجبال – خطوطها الكنتورية، ونتوءاتها، وقممها ومسطحاتها – تجعل سطحها غير مستقر. كما أن تربة الجبال، التي تتشكل على نحوٍ بطيء بسبب الارتفاعات الشاهقة ودرجات الحرارة الأكثر انخفاضاً، غالباً ما تكون حديثة السن وضحلةً وأقل رسوخاً مما يجعلها عرضةً للتعرية والانجراف. ويمكن للأنشطة البشرية أن تعرض التوازن الدقيق للنظم البيئية الجبلية للاختلال. فاجتثاث الغابات المرتفعة، والتعدين، والزراعة غير المستدامة، والزحف العمراني، وارتفاع درجات حرارة الأرض، تترك آثارها جميعاً – كل من ناحيته – على مساقط المياه الجبلية، وعلى السكان والنظم البيئية الواقعة في المناطق السفلى، من خلال آثارها المتصلة بالمياه.
وانطلاقا من الأهمية البالغة للجبال، وحفاظا على دورها الحيوي، فقد أعلنت الأمم المتحدة في 16 ديسمبر الماضي أن سنة 2022 ستكون السنة الدولية للجبال المستدامة؛ بهدف زيادة الوعي بضرورة تحقيق التنمية المستدامة للجبال، إنصافا لدورها في الحفاظ على النظام الإيكولوجي العالمي، وضمان مستقبل البشرية.
وهناك حدث أممي سنوي مستمر منذ 30 عاما هو (اليوم الدولي للجبال) الذي يعود إلى عام 1992، عند اعتماد الفصل 13 من جدول أعمال القرن 21 بشأن (إدارة النظم الإيكولوجية الهشة: التنمية المستدامة للجبال) في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية الذي استضافته مدينة ريودي جانيرو البرازيلية، وشكل ذلك حدثا بارزا في تاريخ تطور الجبال.
وتحدد الأمم المتحدة أيامًا وأسابيع وسنوات وعقودًا معينة كمناسبات للاحتفال بأحداث أو موضوعات معينة من أجل تعزيز أهداف المنظمة من خلال الوعي والعمل. وعادة ما تكون دولة واحدة أو أكثر هي التي تقترح هذه الاحتفالات وتصدرها الجمعية العامة بقرار. في بعض الأحيان ، يُعلن عن هذه الاحتفالات من قبل الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة، مثل اليونسكو، واليونيسيف، ومنظمة الأغذية والزراعة (فاو)، عندما تتعلق بقضايا تقع في نطاق اختصاصاتها.
تحديات تهدد الجبال
تعتبر الجبال موطنا لنحو 15% من سكان العالم وربع الحيوانات والنباتات البرية في العالم. وهي توفر المياه العذبة للحياة اليومية لنصف البشرية. والحفاظ على الجبال يعتبر من العوامل الرئيسية للتنمية المستدامة، وجزءا من الهدف 15 من أهداف التنمية المستدامة التي وضعت الأمم المتحدة خطة لتنفيذها بحلول عام 2030.
ومن المعروف أن الغذاء والطاقة والمياه موارد شحيحة على الأرض، لكنها جزء من الاحتياجات الأساسية لكل إنسان. والجبال هي مصدر للثلاثة، وهو ما يفسر جزئيا أهمية الجبال. ومعظم الغابات موجودة في مناطق المرتفعات، وأشجارها تساهم في الحد من تغير المناخ، لذا فإن الحفاظ على الجبال أمر حيوي للحفاظ على الظروف المناخية القابلة للحياة، وعلى التنوع البيولوجي في النظم البيئية للأرض.
لكن الجبال مهددة نتيجة تغير المناخ والاستغلال المفرط لها. ومع استمرار اتجاه المناخ العالمي نحو الدفء، فإن سكان الجبال يواجهون صراعات أكبر من أجل البقاء. وتذوب الأنهار الجليدية في الجبال بمعدلات غير مسبوقة نتيجة ارتفاع درجات الحرارة، مما يؤثر في إمدادات المياه العذبة في اتجاه مجاري الأنهار التي تساعد ملايين الأشخاص.
ووفقا لإحصائيات أممية فإن سكان المناطق الجبلية هم من بين الفئات الأشد فقراً والأقل حظاً من الثروة في العالم النامي. فالفقر، والعزلة، والنمو السكاني، ومحدودية الوصول الى الأراضي تجبر الكثير من المقيمين في المناطق المرتفعة على تبني ممارسات زراعيةٍ، وأساليب للبقاء تدمر البيئة. ومن ثم فإن التحدي القائم لا يكمن في حماية النظم البيئية للجبال فحسب، بل يجب أن يشمل إشراك المجتمعات الجبلية أيضاً في هذه الحماية – من خلال سبل ملائمةٍ ثقافياً واقتصادياً – إلى جانب تعزيز قدرات هذه المجتمعات على كسب أرزاقها على نحو مستدام. إن هذه التحديات تؤثر في البشرية جمعاء، لذا يجب علينا جميعا الحفاظ على هذه الجواهر الثمينة والكنوز الطبيعية والحد من التداعيات التي تؤثر في استدامتها.
مستودعات طبيعية للمياه
يطلق على الجبال عادة تسمية (المستودعات الطبيعية للمياه). وتعترض التكوينات الجبلية حركة الهواء حول الكرة الأرضية وتجبره على الصعود إلى الأعلى حيث يتكثف كغيومٍ تسقط على هيئة أمطارٍ وثلوج. كما تختزن الجبال المياه، على شكل ثلوجٍ وجليد، لتنطلق كمياهٍ ذائبة خلال فترات الدفء- التي غالباً ما لا تسقط فيها إلا كميات ضئيلة من الأمطار.
وتظهر الدراسات العلمية أن ما بين 70 و 90 % من كميات المياه الجارية في الأنهار، بالأقاليم الجافة وشبه الجافة، تأتي من الجبال. بل وحتى في المناطق المعتدلة، يمكن لنحو 30 إلى 60 % من المياه العذبة أن تَرِد من مساقط المياه الواقعة في المرتفعات. ففي حوض نهر الراين مثلاً، توفر جبال الألب 31 %، وترتفع هذه النسبة في الصيف إلى أكثر من 50 % من المياه المتدفقة فيه سنوياً، على الرغم من أن تلك الجبال لا تشكل إلا 11 % من مساحة أراضي ذلك الحوض.
ووفقا للدراسات التي أوردتها منظمة (فاو) فإن جميع الأنهار الكبرى في العالم – من نهر ريو غراندي إلى نهر النيل – تقع منابعها في الجبال، كما يعتمد واحد من كل شخصين على ظهر هذا الكوكب على مياه الجبال بشكلٍ أو آخر: للشرب، وكمصدرٍ للطاقة أو الدخل، ولإنتاج الغذاء.
وعلى المستوى العالمي توفر المياه العذبة 12 % من أسماك الطعام، وهي مسؤولة عن توليد 20 % من الطاقة الكهربائية، وتدعم نحو 40 % من إنتاج الغذاء والمحاصيل من خلال الري. بيد أن قوة الأنهار الجبلية لا يتم تصديرها على الدوام الى المناطق الأقل ارتفاعاً. وما يتضح على نحوٍ متزايد أنه من دون إيلاء عنايةٍ أكبر للإدارة المستدامة لهذا المورد القابل للنفاد، فان مشكلات إمدادات المياه الآخذة في التفاقم لن تزداد إلا سوءاً على سوء – ومعها الآثار الخطيرة المتوقعة على الزراعة والأمن الغذائي – ولاسيما في العالم النامي.
وتذكر المنظمة أن أي حدثٍ يقع في مساقط المياه المرتفعة ومستجمعاتها يُحدث أثراً جسيماً في المناطق الواقعة أسفل منه. وتعتمد صحة مسقط المياه برمته في كثيرٍ من الأحيان على الحيلولة دون وقوع تدهورٍ بيئيٍ في تلك المناطق. وتساعد النظم البيئية الجبلية السليمة على منع تعرية وانجراف التربة، وتحدّ من الترسيب في خزانات المياه، وتخفف من حدة آثار الانزلاقات الطينية والفيضانات، وهي عوامل يمكنها جميعاً أن تهدد إمدادات المياه في المناطق الدنيا.
وباعتباره جزءاً من عملها الرامي إلى تعزيز إدارة موارد الأراضي والمياه، أطلقت المنظمة عام 2002 مبادرة (الجيل المقبل لبرامج إدارة مستجمعات المياه)، وأجرت مراجعة شاملة لجوانب نجاح إدارة مساقط المياه في الغابات والمناطق الجبلية ونقاط ضعفها. واختارت المنظمة مقولة (الجبال: مورد المياه العذبة)، كشعارٍ خاص بها للسنة الدولية للجبال بهدف تعزيز الوعي بالدور الحيوي الذي تؤديه الجبال في إمداد العالم بالمياه.
السياحة الجبلية المستدامة
يمكن للسياحة الجبلية المستدامة أن تساهم في طرح أفضل الخيارات والبدائل لكسب العيش وللتخفيف من حدة الفقر، وتعزيز الإدماج الاجتماعي، فضلاً عن صون المناظر الطبيعية والتنوع البيولوجي. لذا، فهي السبيل المثلى لصون التراث الطبيعي والثقافي والروحي، ولتعزيز الحِرف المحلية والمنتجات الثمينة، وللاحتفال بالعديد من الممارسات التقليدية مثل المهرجانات المحلية.
ووفقا لمنظمة (فاو) فإن السياحة الجبلية تمثل ما بين 15 و20 % من إجمالي أنشطة السياحة العالمية. ومع ذلك، تعد السياحة أحد القطاعات الاقتصادية الأشد تضررًا من جائحة كوفيد-19، مما أثر في الاقتصادات وسبل العيش والخدمات العامة والفرص في جميع القارات. وأدت القيود التي فرضت للتصدي للجائحة إلى تفاقم ضعف المجتمعات الجبلية.
ويمكن النظر إلى هذه الأزمة على أنها فرصة لإعادة التفكير في السياحة الجبلية وتأثيرها في الموارد الطبيعية وسبل العيش، والحاجة إلى إدارتها بشكل أفضل، وتسخيرها لبناء مستقبل أكثر مرونة واخضرارا وشمولا.
وللمحافظة على الجبال وضمان استدامتها، تنفذ المنظمة أنشطة منتظمة على عدة جبهاتٍ منها مشروعات التعاون التقني التي تقدم التمويل ومشورة الخبراء في المناطق الجبلية؛ و تعميق الفهم للنظم البيئية الجبلية وحاجات المجتمعات السكانية المقيمة هناك، التي غالباً ما تكون أشد تعرضاً للفقر والجوع، من خلال البحوث والدراسات والوسائل الأخرى مثل نظم معلومات ورسم الخرائط المتعلقة بالأمن الغذائي؛ والنهوض بدورٍ قيادي في الجهود الدولية الرامية الى إرساء آلياتٍ تعاونيةٍ لترويج التنمية المستدامة وتخفيف وطأة الفقر في المناطق الجبلية؛ و تطوير خطوطٍ توجيهية ومواد تثقيفية حول قضايا عدة مثل إدارة مساقط المياه، يمكن أن تستخدم لتطبيق ممارسات التنمية المستدامة في مناطق المرتفعات؛ و إجراء مراجعاتٍ متعمقة للقوانين والسياسات والاستراتيجيات المتصلة بالجبال، لمساعدة البلدان على تجنب الأخطاء وتنفيذ مبادراتٍ ناجحةٍ في المناطق الجبلية.