د.عبدالله بدران
لم يكن موضوع التنوع البيولوجي غائبا عن تقرير توقعات البيئة العالمية في نسخته السادسة التي أطلقت الشهر الماضي في العاصمة الكينية نيروبي، إذ كانت جميع المجالات المرتبطة به حاضرة في فصل خاص أعده عدد من الخبراء المرموقين، باعتباره أحد الموضوعات الحيوية لاستمرار الكوكب وديمومته، والمحافظة على معيشة كائناته الحية.
وفي ذلك الفصل سلط الخبراء الضوء على الروابط الوثيقة بين التنوع البيولوجي وتلك الموضوعات، وفي مقدمتها الصحة وتغير المناخ والمياه والتغذية والتنوع الجيني وحماية النظم الإيكولوجية وإجراءات الحوكمة والكائنات الحية المهددة بالانقراض وحفظ المواد الجينية، إضافة إلى العلاقات السياسات العلمية.
والإحصائيات التي أوردها التقرير في موضوع الكائنات المهددة بالانقراض -على سبيل المثال- تثير القلق الشديد ويجب أن تأخذها البشرية على محمل الجد لتأخذ الإجراءات المناسبة حيالها. ومن ذلك أن نسبة 42 % من اللافقاريات البرية و34 % من لافقاريات المياه العذبة و25 % من اللافقاريات البحرية تعد معرضة لخطر الانقراض، وأنه في الفترة بين عامي 1970 و2014، انخفض تعداد جماعات أنواع الفقاريات على الصعيد العالمي بنسبة 60 % في المتوسط، في حين وُثّقت أيضا انخفاضات حادة في وفرة الكائنات الملقّحة.
سلامة النظم الإيكولوجية
تعاني النظم الإيكولوجية تراجعا حاد؛ إذ شهدت عشرة موائل من كل 14 موئلا بريا تراجعا في إنتاجية النباتات، في حين تشكل الأنواع الدخيلة المغيرة المتوطنة منها وغير المتوطنة تهديدا على تلك النظم والموائل والأنواع الأخرى. وتبلغ تكاليفها الاقتصادية، المباشرة وغير المباشرة على حد سواء، عدة بلايين من الدولارات سنويا.
وفقدان التنوع البيولوجي يمثل مسألة إنصاف أيضا، حيث يؤثر في الفئات الأفقر والنساء والأطفال أكثر من غيرهم. وإذا استمرت المعدلات الحالية للتراجع، ستُحرم الأجيال المقبلة من الفوائد الصحية للتنوع البيولوجي. وتعتمد سبل عيش 70 % من الفقراء اعتمادا مباشرا على الموارد الطبيعية، كما يقول التقرير.
وأهم عوامل الضغط على التنوع البيولوجي هي تغيير الموائل وفقدانها وتدهورها؛ والممارسات الزراعية غير المستدامة؛ وانتشار الأنواع المغيرة؛ والتلوث، بما في ذلك الجسيمات البلاستيكية الدقيقة، والإفراط في الاستغلال، بما في ذلك قطع الأخشاب غير القانوني والتجارة غير القانونية في الأحياء البرية. ويقدر أن قيمة التجارة غير القانونية في الأحياء البرية ومصائد الأسماك والمنتجات الحرجية تراوح ما بين 90 و270 بليون دولار سنويا.
وتتطلب حماية الأنواع والنظم الإيكولوجية حفظ التنوع البيولوجي والاستخدام المستدام لعناصره، والتقاسم العادل والمنصف للمنافع الناجمة عن استخدام الموارد الجينية. ويمكن تحقيق أكبر قدر من الفعالية في صون تلك الأنواع والنظم عن طريق حفظ الموائل الطبيعية. وهناك أدلة على أن عمليات الحفظ يمكن أن تساعد على التقليل من فقدان التنوع البيولوجي. ومازالت جهود التنفيذ والإدارة والتغطية التمثيلية لأنواع النظم الإيكولوجية ضمن المناطق المحمية غير كافية. فالمناطق المحمية تمثل أقل من 15 % من الموائل على اليابسة، بما في ذلك المسطحات المائية الداخلية، وأقل من 16 % من المناطق الساحلية والبحرية من المناطق الواقعة ضمن نطاق الدول.
ويوفر حفظ المواد الجينية خارج الموقع ضمانات للحفاظ على إمكانات التكيف، ولا سيما أنواع المحاصيل والأنواع الزراعية. وتكمل البنوك الجينية ومجموعات البذور عمليات حفظ الموارد الجينية في الموقع، لكن لا يزال توثيق حالة حفظ التنوع الجيني لمعظم الأنواع البرية ضعيفا. غير أن الفقدان المتسارع للتنوع البيولوجي، والتكلفة الباهظة المتصاعدة للتقاعس عن العمل، يتطلبان زيادة عاجلة في الاستثمارات العالمية في مجالي الاستخدام المستدام والحفظ، وكذلك الإدماج المستمر لشواغل التنوع البيولوجي في جميع جوانب التنمية الاقتصادية.
إجراءات الحوكمة
تطرق التقرير إلى أمور عدة تتعلق بالحوكمة ودورها في الحفاظ على التنوع البيولوجي. ورأى أنه على الرغم من التقدم الذي تشهده جهود الحوكمة، فيجب بذل جهود أكبر لتحقيق الأهداف الدولية، مثل (أهداف آیتشي للتنوع البيولوجي) ضمن الخطة الاستراتيجية لاتفاقية الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي للفترة 2011 – 2020، وأهداف التنمية المستدامة. فقد قُدّم ما يزيد على 190 استراتيجية وخطة عمل وطنية للتنوع البيولوجي إلى الاتفاقية، وإن ظل هناك تفاوت في جودتها وموثوقيتها وكذلك في مستوى تطبيقها بعد ذلك.
وتوفر عدة اتفاقات بيئية متعددة الأطراف هياكل إضافية للحوكمة في مجال التنوع البيولوجي، منها اتفاقية الأراضي الرطبة ذات الأهمية الدولية وخاصة بوصفها موئلا للطيور المائية، واتفاقية التجارة الدولية بأنواع الحيوانات والنباتات البرية المهددة بالانقراض. ويمكن للتحديث المستمر للقائمة الحمراء للأنواع المهددة بالانقراض الصادرة عن الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة وغير ذلك من جهود الرصد المستقلة، مثل المرفق العالمي لمعلومات التنوع البيولوجي ومراعاة القيم المتعددة للتنوع البيولوجي وإدماج قيمة التنوع البيولوجي في طرائق التقييم الاقتصادي الوطنية أن يؤدي إلى دعم وإرشاد تنفيذها. إضافة إلى ذلك هناك حاجة ملحة إلى توسيع تقييمات النظم الإيكولوجية من أجل توفير فهم أفضل لحالة تلك النظم على الصعيد العالمي والاتجاهات التي تشهدها.
ويمثل إيلاء تركيز أكبر لتعزيز نظم الحوكمة؛ وتحسين أطر السياسات العامة عن طريق الأبحاث وإدماج السياسات؛ والتنفيذ؛ وتشجيع الشراكات وعمليات المشاركة تدابير تنطوي على إمكانية التصدي لأشد الضغوط على التنوع البيولوجي. ويتعين على الجهود المبذولة للتصدي لفقدان هذا التنوع أن تعالج أيضا القضاء على الفقر وتحديات الأمن الغذائي وأوجه اللامساواة بين الجنسين والجوانب النُظُمية الشاملة لنقص الكفاءة وانتشار الفساد في هياكل الحوكمة وغير ذلك من المتغيرات الاجتماعية.
سلامة البحار والمحيطات
تؤدي المحيطات دورا مهما في الاقتصاد العالمي. وتولد مصائد الأسماك وتربية الأحياء المائية حاليا نحو 252 بليون دولار سنويا. وتدعم مصائد الأسماك الصغيرة النطاق سبل معيشة ما يراوح بين 58 و120 مليون شخص. وتوفر الأسماك ما يزيد على 20 % من البروتين الغذائي لنحو 3,1 بليون شخص. ونظرا إلى هذه الأهمية البالغة فإن التقرير يركز على ضرورة استدامة مواقع صيد الأسماك وتربية الأحياء المائية خلال استثمارات كبيرة في مجالات الرصد والتقييم وإدارة العمليات.
وأصبحت القمامة البحرية، بما فيها البلاستيك والجسيمات البلاستيكية الدقيقة، موجودة حاليا في جميع المحيطات. ولقيت هذه المشكلة من حيث حجمها وأهميتها اهتماما متزايدا في السنوات الأخيرة. وتظهر التقديرات الحالية أن مدخلات القمامة البلاستيكية البحرية المرتبطة بسوء إدارة النفايات المنزلية في المناطق الساحلية تبلغ نحو ثمانية ملايين طن سنويا، وينشأ 80 % منها عن مصادر برية. ويمكن للنفايات البلاستيكية البحرية أن تسفر عن أثر إيكولوجي كبير نتيجة العلوق بها وابتلاعها، ويمكن أن تصبح أيضا وسيلة ناقلة للأنواع المغيرة وغيرها من الملوثات. وتمثل معدات الصيد المتروكة أو الضائعة أو المعدات التي يجري التخلص منها بوسائل أخرى أحد المصادر الرئيسية للقمامة البحرية. ولا يقتصر أثر هذه المعدات على ضررها الكبير، فهي أيضا تقلل أعداد الأرصدة السمكية وتمثل تهديدا اقتصاديا كبيرا بالنظر إلى قدرتها على إلحاق الضرر بالسفن البحرية ومصائد الأسماك وخدمات النظم الإيكولوجية. ويقول التقرير إن الحضور والوفرة المتزايدين للجسيمات البلاستيكية ربما يؤثران تأثيرا ضارا في صحة الكائنات البحرية والبشر. وتظهر التقديرات أن الأضرار التي لحقت بمعدات الصيد في أوروبا وحدها تزيد على 72 مليون دولار في السنة، في حين تقدر تكلفة تنظيف الشواطئ بمبلغ 735 مليون دولار سنويا. وهذا ما يستدعي تحسين إدارة النفايات، بما في ذلك إعادة التدوير وإدارة نهاية عمر المنتج، وهو الحل الأكثر إلحاحا في المدى القصير لتخفيض مدخلات القمامة البحرية.