د. زياد حسين نجم
المدير التنفيذي لأكاديمية التقدم العلمي، عضو هيئة التدريس بجامعة الكويت (سابقاً)
لطالما ربط الخبراء والمتخصصون في التعليم والاقتصاد بين الدور الكبير الذي تؤديه المناهج التعليمية وأساليبها المتنوعة، وبين تحقيق الاقتصاد المعرفي الذي يعول عليه في عملية التطور في البلاد وازدهارها ودفع عجلة التنمية فيها. وما من شك في الأهمية التي تقع على عاتق التعليم الإلكتروني بكل أشكاله (ذاتي، عن بعد، متزامن، أو غير متزامن) في بناء ركيزة صلبة تمكننا من الوصول إلى اقتصاد فعال ومستدام يستند إلى المعرفة ويعتمد على عناصرها.
وهنالك منظوران شائعان للاقتصاد المعرفي: المنظور الأول هو الاقتصاد المنتج للمعرفة. وعلى سبيل المثال، يشمل هذا المنظور بناء بيئة مستدامة جاذبة ومشجعة على الابتكار وتحويل الأفكار إلى إنتاج مدر للدخل بطريقة منهجية فاعلة. والمنظور الآخر هو اقتصاد يستفيد من المعرفة في تحسين أداء منظومته القائمة، حيث تؤدي المعرفة دور العامل المحسن للإنتاج والأداء، ومن ثم تقليل التكلفة الإنتاجية للروافد القائمة، وإن كانت تلك الروافد غير معرفية.
وتؤدي المعرفة الدور الأساسي في كلا المنظورين. ففي المنظور الأول لاتأتي المعرفة من فراغ، ولا بد من تهيئة القوى العاملة في مجال بناء المعرفة بقاعدة صلبة من العلوم الحديثة ليتمكنوا من الابتكار والتنافس مع مراكز الاقتصاد المعرفي المنافسة، في حين تؤدي المعرفة في المنظور الثاني دور المهيئ لشرائح واسعة ومتنوعة من العمالة للارتقاء بقدراتهم وأدائهم.
وسنتطرق في هذا المقال إلى التعليم الإلكتروني لتمكين المنظومة التعليمية من توفير المعرفة للمنظورين: الأول كيف نوفر لمتعلمينا وعلمائنا العلوم الحديثة؟ والآخر كيف نوفر التدريب والتأهيل وإعادة التأهيل المتواتر والمتنوع والمحدث لجموع العاملين بصورة فاعلة واقتصادية؟
انتشار التعليم الإلكتروني
لن نسهب الحديث عن تعريف التعليم الإلكتروني أو فوائده. فمن المستبعد أن يكون القارئ غير ملم أو مطّلع على ماهيته وخصوصاً بعد جائحة كوفيد 19، وتوجه جميع دول العالم إلى الحلول التكنولوجية لضمان استمرار التعليم، ولاسيما في الأشهر الأولى لانتشار الجائحة وما صاحبها من احترازات صحية.
لكن نود أن نوضح أن التعليم الإلكتروني مبني على تكنولوجيا المعلومات التي تستند بدورها إلى ذراعين: الذراع الأولى هي أدوات الاتصال الرقمي، والأخرى هي أدوات الحوسبة والحفظ والأرشفة الرقمية. وتتباين حلول التعليم الإلكتروني وفق ما تستند إليه من هاتين الذراعين. فمثلا التعليم عن بعد (وهو نوع من التعليم المتزامن بوجود مُعلم أو مُيسّر) يعتمد في الأساس على أدوات الاتصال الرقمية دون استخدام أدوات الحوسبة بصورة أساسية، في حين يعتمد التعليم الرقمي (تعلم ذاتي غير متزامن) على استخدام أدوات حوسبة ورقمنة المعلومات دون الحاجة لأدوات الاتصال. وغني عن القول إن أفضل هذه الحلول هي التي تدمج بين الذراعين، وتمزج بين التعلم الذاتي والتعليم المصاحب وبين المتزامن وغير المتزامن.
تحديات التعليم العالي
يشكل التعليم الإلكتروني مخرجاً عملياً لتجاوز العديد من التحديات والصعوبات التي تواجهها مؤسسات التعليم العالي في الدول الناشئة، ولاسيما الدول الريعية، سواءً أكان ذلك في المجالات الدراسية المعتادة أم الفريدة.
فمعظم المؤسسات التعليمية تعاني بسبب تزايد عدد الطلبة (لاسيما في المستويات الجامعية الأولى). ويرجع ذلك إلى أسباب متعددة منها كون التعليم الجامعي حقا مكفولا في العديد من الدول الريعية، ودوره في التمهيد لوظائف أكثر جاذبية في ضوء عزوف الكثير عن الوظائف المهنية الاحترافية، إضافة إلى اتساع الهوة بين مقدرات مخرجات التعليم النظامي من جهة ومتطلبات التعليم الجامعي من جهة ثانية، مما يستوجب دراسة الكثير من الطلبة المستجدين لمقررات تمهيدية، وهذا يستنفد الكثير من طاقات الهيئة التدريسية. وهذه الصعوبات ليست محلية أو إقليمية فقط؛ فبعض المؤشرات تتوقع أن يزداد الطلب على التعليم العالي عالميًا من 220 مليونا إلى 415 مليونًا بحلول عام 2030، مما سيتعين على العالم معه بناء 7800 جامعة جديدة يخدم كل منها 25 ألف طالب لتلبية هذا التزايد، أي بمعدل 15 جامعة جديدة… كل أسبوع… كل عام… لمدة 10 أعوام! ولا نرى مخرجاً لتجاوز هذه العقبة إلا باعتماد تعليم إلكتروني يخفف الضغط على الكوادر الأكاديمية (لاسيما
في المقررات التمهيدية والتأسيسية) ويدفع باستخدام أدوات التعلم الذاتي التي سينتج عنها بلا شك مُتعلّمٌ مُستقلٌّ، مُبادرٌ، قادرٌ على الفهم مِن مصادر التعلّم، ولديه الدافع الذاتي لذلك. وكُلّ هذه صفات تؤهّل صاحبها للتعلّم الذاتي والتعليم المستمر، وأصبحت مهاراتٍ أساسيّة مطلوبة في سوقِ عملِ القرنِ الحادي والعشرين المتغيّر باستمرار.
التحدي الآخر فيما بتعلق بالتعليم الجامعي هو ذلك المتعلق بإنشاء كليات (أو حتى أقسام) لتخصصات جديدة، لاسيما إذا كانت تخصصات مميزة أو نادرة على المستوى العالمي. فإنشاء قسم أكاديمي يستغرق مدة طويلة من المحادثات لما له من تبعات مستقبلية. ولعل أصعب خطوات الإنشاء هي استقطاب أعضاء هيئة التدريس. وتزداد هذه الخطوة صعوبة كلما زاد التخصص ندرة. كما أن هناك حدا أدنى للإقبال على أي تخصص جديد قبل أن تجد الجامعة المبرر المالي للاستثمار فيه. لكن بحلول الوقت الذي يتوفر فيه ما يكفي من الطلب على الوظائف واهتمام الطلبة بمثل هذا التخصص، سيكون قد فات الأوان على الجامعات المحلية لاستقطاب المتخصصين. أضف إلى ذلك تأثير العرض المحدود والطلب الأعلى الذي سيؤدي إلى رفع تكلفة اكتساب أعضاء هيئة التدريس الجدد في هذه التخصصات الجديدة الناشئة.
ربما يكون التعليم الإلكتروني عبر الإنترنت هو الطريقة الوحيدة الفعالة من حيث التكلفة للخروج من هذا التحدي المستحيل نوعًا ما. ولا أتخيل هنا تمكن أي اقتصاد ناشئ من أن يتمكن من التحول إلى اقتصاد معرفي منافس للاقتصادات المعرفية المتقدمة إذا ما اعتمد فقط على جامعاته المحلية أو برامجه للابتعاث لبناء قاعدته المعرفية في التخصصات الجديدة الناشئة. وربما يجدر بالإشارة هنا أن العالم بدأ يشهد تسارعاً ملحوظاً في حجم الزيادة المضافة للعلوم الجديدة. فالمعرفة تولد معرفة وتتبع منحنى أسيا exponential curve متسارعا، ويبدو أن البشرية قد وصلت إلى معامل تسارع doubling-time factor لا يزيد عن 100 عام، حيث يتنبأ العديد بأن ما ستنتجه البشرية خلال القرن الحادي والعشرين سيعادل ما أنتجته منذ بدء كتابة التاريخ.
وسيسمح التعليم عن بعد للطلبة المبادرين بالالتحاق بالجامعات العالمية دون الحاجة للتكلفة العالية لانتقالهم جغرافياً. فبفضل التقدم الهائل في مجالي الاتصالات والحوسبة أصبحت الإنترنت بعداً رابعاً يتفوق أهميةً على الأبعاد الجغرافية الثلاثة.
التدريب المهني وإعادة تأهيل العاملين
كما أشرنا في البداية، فإن المنظور الثاني للاقتصاد المعرفي – حسب تعريفنا- هو اقتصاد يستفيد من المعرفة في تحسين أداء منظومته القائمة، حيث تؤدي المعرفة دور العامل المحسن للإنتاج والأداء، ومن ثم تقليل التكلفة الإنتاجية للروافد القائمة، حتى وإن كانت هذه الروافد غير معرفية. وفي هذا المجال نرى أن التعليم الإلكتروني ربما يؤدي دوراً محورياً في تحقيق ذلك.
وكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن التغييرات المتوقعة في احتياجات ونوعية الوظائف خلال عقد من الزمان، وذلك لأسباب عديدة منها رقمنة العديد من الوظائف، والتوسع في استخدام الآلة والذكاء الاصطناعي والاستفادة من البيانات الهائلة التي يتم حصدها. وهذا التحول لا يعني الاستغناء عن العنصر البشري، كما يتخوف البعض ويتم التهويل به، بل هو مطابق لما حدث عند دخول الآلة في الثورة الصناعية حيث يتم إلغاء بعض الوظائف النمطية والرتيبة وتزداد الحاجة إلى القوى العاملة الماهرة في مجالات إبداعية غير نمطية. وعلى الرغم من عدم تيقننا من ماهية هذه الوظائف، فإن من المؤكد أن ضمان فرص عمل سيعتمد على قدرة الفرد والمجتمع على تطوير وإعادة تأهيل المهارات بشكل مستمر بدلاً من مدة الخدمة والخبرة كما هو الأمر حالياً.
ويمكــن للتدريــب الإلكــتروني أن يذلــل العديــد
من التحديات التي تواجه أي منظومة ترغب في تدريب منتســبيها. وســنتناول هنــا ثلاثــة منهــا: المنهجيــة،
المواءمة، والحداثة.
تعتمد العديد من المؤسسات على أحد الأسلوبين التاليين في تدريب موظفيها على أمور جديدة: إما تدريب نخبة من موظفيها (بتكلفة عالية نسبياً) والتعويل على انتقال المعرفة الجديدة لبقية الموظفين من خلال الاحتكاك اليومي الاعتيادي مع النخبة. أو تدريب مجموعة من الموظفين master trainers لتدريب باقي الموظفين، مما يساعد على تقليل التكلفة الإجمالية. يعاني كلا الأسلوبين عدة سلبيات منها: التكلفة العالية مقارنة بالأعداد المستفيدة؛ بطء العملية التدريبية في إيصال المعلومات للجميع؛ وأخيراً، تراكم النقص في دقة وحجم المعلومات عند انتقالها من مستوى إلى آخر. ويمكن للتعليم الإلكتروني أن يحل كل هذه المشكلات حيث يمكن لجميع المعنيين تلقي التدريب في الوقت نفسه ومن المصدر المعتمد نفسه، مما يؤدي إلى توسيع قاعدة المتدربين وتحقيق أعلى نسبة اكتساب معلومات صحيحة وكاملة.
والتحدي الثاني هو مواءمة فرص التدريب للمتدربين. فمعظم من يحتاجون للتدريب هم موظفون بحاجة إلى إعادة تأهيل مهارات أو اكتساب مهارات جديدة. وكونهم موظفين يجعل من اختيار الوقت المناسب للجميع معضلة مستمرة بين إدارات التدريب ومديري الموظفين. والتدريب الإلكتروني لا يعاني بسبب هذه السلبية لأن معظمه تدريب ذاتي، وتصبح مسؤولية كل موظف اختيار الوقت المناسب لجدوله.
ومصدر القوة الثالث للتعليم الإلكتروني هو ملاءمته للتحديث المستمر وسرعة الاستجابة لإضافة ما هو جديد. وهذا الأسلوب أفضل في القرن الحالي حيث نرى كيفية تمكن أي من نماذج التدريب الكلاسيكية من التأقلم مع التحديث المستمر للمادة التدريبية والقدرة على إضافة مواد حديثة.
التحول الرقمي للتعليم والتدريب
إن الانتقال إلى التعليم أو التدريب الرقمي يتطلب استثمارًا أوليًا كبيرًا (حاله كحال أي مشروع تحول رقمي). ويتم الحصول على عائد الاستثمار إما عن طريق تقليل تكلفة التشغيل المستقبلية، أو تحسين جودة العملية، أو مزيج منهما. وهذا لا يتناقض مع توجه مفاده أن استحداث (وليس التحول) برامج تعليمية أو تدريبية جديدة إلكترونيا قد يكون أكثر جدوى من استحداث تلك البرامج بصورتها النمطية.
في الختام، نذكر أن التعليم/التدريب الإلكتروني مختلف عن نظيره النمطي، ومن ثم يتوقع أن يتفوق في جوانب ويتعثر في أخرى. لذا من الضروري الحكم عليه بصورة إجمالية وليس بالتركيز إما على نقاط الضعف (أو القوة). فمثل أي ابتكار مزعزع Disruptive Innovation سنجد من سيندفع لتبني الحديث باستهتار، ومن سيتشبث بالقديم لأسباب مختلفة منبعها الحقيقي هو الخوف من التغيير، وليس من المجدي أن يقود الحديث أي من الطرفين. باختصار، لا بد أن يتم تقييم التغيير بمجمله وليس بجزئياته. كما يفضل أن يتم التركيز في البداية على تطبيق الابتكار على الساحات غير المأهولة بما هو قديم؛ أي أن يتم اقتحام مجالات لم تكن ممكنة، بدلاً من محاولة منازعة الحلول التقليدية مبكراً بلا داع أو تجهيز.