دعمت أبحاث الفيزياء مسألة التشخيص الطبي من خلال التطور الحاصل في عمليات التصوير، فعلى سبيل المثال؛ أصبح بمقدور الطبيب أن يرى ما في داخل جسم مريضه من دون الحاجة إلى إجراء عمل جراحي، وأول صورة بواسطة أشعة X التقطها كونراد رونتغن عام 1895 ليد زوجته، وقد بدا خاتم الزواج في إصبعها، وبعد ذلك بعدة سنوات، أصبحت تقنية التصوير بأشعة X واسعة الانتشار في الطب. و منذ نحو 25 سنة تمكن التصوير الطبقي بأشعة X من إنتاج صور ثلاثية الأبعاد للأجزاء الداخلية من الجسم، خصوصاً بنية العظام الغليظة (الكثيفة).
وجعل التصوير بواسطة الرنين المغنطيسي النووي، الذي يستخدم الخواص الميكانيكية الكمومية للسبينات النووية (السبين هو جهد أو عزم اللف الذاتي للذرة أو للنواة أو للإلكترون)، الحصول على صور للخلايا الناعمة في جسم الإنسان ممكناً. ففي السنوات الأخيرة أدى تطوير كواشف عالية الحساسية باستخدام أشباه موصلات فائقة عند درجات حرارة عالية إلى إدخال تحسينات إضافية في طرائق التصوير، والمساهمة في تسهيل عمليات تصوير المرضى، كما أدى تزايد قدرة تحليل الأجهزة إلى سرعة التشخيص، أو بشكل بديل: أمكن إنقاص شدة الحقل المغنطيسي، ومن ثم اختزال زمن التصوير؛ مما ينعكس بدوره على المريض إيجابياً، ويخفف من توتره ومعاناته.
وهناك تقدم رئيسي آخر أنجز من خلال التصوير الوظيفي، ليس فقط من الناحية التشريحية، بل من الناحية الفيزيولوجية أيضاً بإظهار تفاصيل مفيدة للجسم. فيمكن على سبيل المثال باستخدام طريقة الرنين المغنطيسي النووي تبين وجود شذوذ أو اضطراب وظيفي في عمل المخ.
وجاءت آخر مساهمات التصوير بالرنين المغنطيسى النووي من حقل أبحاث الفيزياء الصرفة باستخدام مطيافية الهليوم 3؛ إذ جرى الحصول على صور تفصيلية للتهوية الرئوية للمرة الأولى. ويعد تصوير الرئة وتغيراتها المرضية مسألة قديمة في علم التشخيص والمعالجة بالإشعاع؛ فقد مكن التصوير الكلاسيكي بأشعة X من الكشف عن مرض السل بواسطة قطع صغيرة من الكالسيوم تسير في الأمكنة التالفة، أو بتمييز الورم بفعل الكثافة العالية للنسيج الرئوي، التي تنفذ منه السوائل بسهولة، لكن السؤال الأهم لمعظم المرضى الرئويين، المصابين بداء الربو مثلاً، هو: كيف تتم تهوية الرئة جيداً أو إشباعها بالهواء موضعياً؟
الضخ الضوئي
بقي هذا السؤال من دون جواب إلى حد كبير حتى باستخدام الوسائل الحديثة مثل: التصوير الطبقي بأشعة X المحوسب: (أي: بمساعدة الحاسوب)، أو التصوير بالرنين المغنطيسي. و بمساعدة مطيافية الاستقطاب السبيني النووي للهليوم 3 ، فتحت آفاق واسعة أمام طريقة الرنين المغنطيسي النووي في مجال التصوير الطبي، وأخذ فيزيائيون من مختلف أنحاء العالم يجربون ــ منذ عدة سنوات ــ الغازات الخاملة المستقطبة سبينياً: فقد استخدموا الضخ الضوئي بواسطة الليزرات لتصفيف السبين النووي للذرات ولثنائيات الأقطاب المغنطيسية الموافقة على طول محور حقل مغنطيسي مطبق.
وعلى كل حال فقد تبين أنه من الصعب إنتاج كميات كافية من غاز تكون سبيناته مستقطبة، والمحافظة على الاصطفاف السبيني بهذا القدر مدة طويلة لازمة للاستخدامات العملية.
وقد نجح الفيزيائيون في مدينة ماينز الألمانية خلال تجارب تقصي البنية الكهرمغنطيسية والداخلية للنترون في استخدام نوع جديد من الضخ الضوئي لتصفيف السبينات النووية لغاز الهليوم 3 الخامل في كميات ذات حجم مقداره لتر واحد. إضافة إلى ذلك، استطاع الفيزيائيون ابتكار طرائق عدة للمحافظة على هذا الاصطفاف عدة أيام.
لقد مكن هذا التطور المدهش من ظهور شكل جديد لتشخيص أمراض الرئة: إذ تحسن التشخيص بشكل متزايد من خلال تصوير فعال متعدد الأهداف بعد مدة استخدام قصيرة تماماً؛ إذ يمكن التقاط صور ثلاثية الأبعاد للرئة في جزء من عشرة أجزاء من الثانية، متيحةً بذلك فيلماً تقريبياً يبين العمليات الحاصلة في الرئة خلال عملية الشهيق، ويكشف المعضلات والعوائق، ويمكن أيضاً من استخدام إشارة الطنين لتقصي مسار انتشار ذرة الهليوم 3 خلال الرئة، ثم التفريق بين النسيج المريض والنسيج المتشابك السليم، كما يتفكك الهليوم 3 المستقطب خلال عدة ثوان بالتلامس مع أكسجين الهواء في الرئة.
أمكن أيضا مداواة الأمراض الخبيثة باستخدام مسرعات الشوارد الثقيلة ذات الطاقة العالية التي تصل إلى الخلايا المريضة وتدمرها، ويسمح القياس الدقيق لزمن هذا التفكك بتحديد موضعي لكمية الأكسجين واستهلاكها في الرئة. وهكذا للمرة الأولى في التاريخ الطبي، يتم تشخيص حالة الرئتين مع تحليل موضعي بطريقة غير متلفة لهما.
فيزياء الليزر
إن الأبحاث الجارية في حقل فيزياء الليزر تتوسع باستمرار مع اتساع مجال الحزم الليزرية التي تتيحها التقانة المتطورة، فأصبح متاحاً لدينا حزم ليزرية بأطوال موجية متجددة باستمرار، وبكثافة متزايدة، وتنوع واسع في أزمنة النبضات التي تضخها أنظمة ليزرية نبضية، وهذا بدوره يفتح حقولاً جديدة من التطبيقات في العلاج الطبي، مع مزيد من المنافع. وتعد أزمنة المعالجة بالليزر أقصر من الأزمنة اللازمة للعمليات الجراحية التقليدية، من حيث إن تقنية الألياف الضوئية تسمح بجراحة استئصالية في الجلد، تحتاج فقط إلى عدة مليمترات في الحجم. وهذا يعني بشكل ذي دلالة تخفيف الضغط عن المرضى، وتقليل أخطار الجراحة، واختزال تكاليف العلاج والشفاء. ويوجد ليزر مثالي متيسر لمعظم التطبيقات الجراحية، ويمكن ــ على سبيل المثال ــ إنتاج حزم مستمرة لقطع النسيج قيد المعالجة، أو استخدام ليزر نبضي لفصل العظم المزاح أو الغضروف عن مكانه، ويحدد طول الموجة إذا كان النسيج يتخثر خلال عملية القطع؛ أي إذا كان سطحه يتخثر بفعل تأثيرات الحرارة، وهو أمر يكون مرغوباً حصوله في النسيج الوعائي، أو لمعرفة إذا ما كان النسيج يتغير بمقدار صغير عند حافة القطع. وبهذه الطريقة تلتئم جروح الجلد بسرعة معاً ومن دون تشكيل ندوب أو آثار بفعل المعالجة.
مسرعات الشوراد
أصبحت العمليات في أعماق العين منذ مدة طويلة متاحة في حقل طب العيون؛ فقد أمكن بواسطة الليزك لحم شبكية منفصلة ثانية في مكانها الصحيح. وفي حالات الضغط المتزايد داخل العين أمكن أيضاً تصفية قنوات مجرى الدمع بجعلها هدفاً للحزم الليزرية. وتعد خطوات تصحيح العيوب الانكسارية؛ مثل قصر وطول النظر، وعدم تطابق الرؤية باستئصال القرنية من أشهر استخدامات الليزك الطبي.
إن منظر مجتمع لا يوجد فيه من يرتدي نظارات هو منظر ساحر حقاً، ولدينا الآن طريقة ليزرية جديدة باستخدام الليزك الطبي قدمت أملاً جديداً إلى المرضى الذين يعانون بقعاً عينية متحللة مرتبطة بتقدم السن. ولا يزال هذا المرض حتى الآن يؤدي بصاحبه إلى العمى، وللمرة الأولى في تاريخ طب العيون يقدم الليزك طريقة متميزة في علاج حقيقي لهذه الحالات.
وفي علم الأمراض الجلدية تساعد الليزرات على إزالة الوشم وبقع الدم الحمراء؛ فقد أظهرت الاستعاضة عن طرائق ليزرية حديثة بالطرائق القديمة في المعالجة نتائج مدهشة في بعض الحالات. وأصبحت جميع هذه التطورات ممكنة؛ لأن البحث الخالص في حقل فيزياء الليزر طور أجهزة وأساليب قادرة على أن تقدم لنا بشكل متزايد جواباً كاملاً عن تشكيلة واسعة من المتطلبات في عالم الطب.
أما في مجال طب الأسنان، فقد استخدم الليزر في علاج الأنسجة الطرية والصلبة في التجويف الفموي. واستخدم حديثاً في معالجة عصب الأسنان، بما في ذلك عمل الحفرة المؤدية إلى حجرة العصب الملتهب، وإزالته أيضاً، وتهيئة قنوات العصب وحشوها بالمادة المناسبة، كما يمكن بواسطة الليزر تنظيف الأسنان وتبييضها، والتخلص من رائحة الفم الكريهة الناتجة من تسوس الأسنان وأمراض الفم.
يمكن مداواة الأمراض الخبيثة باستخدام مسرعات الشوارد الثقيلة ذات الطاقة العالية؛ إذ تبلغ طاقة الشاردة نحو 1.35MeV ويمكن لشوارد الكربون ــ على سبيل المثال ــ أن تصل إلى الخلايا المريضة المتوضعة عميقاً في جسم الإنسان وتدمرها.
وتظهر النتائج الحاصلة في فيزياء الطاقات العالية باستخدام المسرعات، والأبحاث المتممة الجارية في مجال الفيزياء البحتة، إمكانية إجراء تطبيقات عملية مهمة جداً؛ إذ تؤدي الشوارد الثقيلة الصادرة عن المسرع إلى تخريب بيولوجي في خلايا الورم العميقة ضمن الجسم من دون إصابة مفرطة للخلايا السليمة؛ لأن الشاردة الثقيلة لا تخسر طاقتها عند اختراقها جسم الإنسان، ولو بعمق 15 سنتيمتراً، إلا في السنتيمتر الأخير من رحلتها، هذه النتيجة المذهلة التي قدمتها أبحاث في الفيزياء البحتة تشكل إنجازا مهما مقارنة بتخريب الخلايا السليمة الذي كان يحصل من الاستخدام التقليدي لأشعة X.
وتم معالجة أكثر من سبعين مريضاً حتى الآن بهذه التقنية الجديدة، وإثر نجاح هذه التجربة في العلاج وضعت خطة لبناء مسرَّع ومركز تطبيقي نوعي لمداواة الأورام الخبيثة في جامعة دار مستادت الألمانية بطاقة معالجة استيعابية تبلغ 1000 مريض في العام. وهكذا تفتح الفيزياء الطريق نحو آفاق جديدة في الميدان الطبي سيكون لها انعكاسات ثورية في تشخيص الأمراض ومداواتها. إنها الحكمة القديمة التي تقول: خير الأشياء تلك التي لم نكتشفها بعد.