الحضارة العربية توصلت إلى إمكانية استحداث البرودة دون الحاجة للشتاء أو الثلج، وعرفت تقنيات للحفاظ على نقل وتخزين الجليد في مختلف الظروف.
استخدم الثلج المصنع في أمور عدة أهمها الطب والحروب والصناعة، وانتشر على الموائد في البيوت في الأشهر الحارة.
د. سائر بصمه جي
باحث في مجال التراث العلمي العربي، (سوريا)
كثيراً ما يهمل مؤرخو العلوم الإسهامات العلمية العربية والإسلامية في مجال صناعة التبريد وطرائقها، ويعتبرون أن هذه الصناعة بدأت في الحضارات القديمة، ثم تطورت فجأةً في أوروبا وأمريكا.
لكن الباحث يجد من خلال الكثير من الكتب والوثائق العربية أن العلماء العرب والمسلمين توصلوا إلى إمكانية استحداث البرودة دون الحاجة إلى الشتاء أو الثلج؛ وذلك باستخدام المواد الكيميائية، كما أنهم عرفوا الكثير من التقنيات التي تمكنهم من الحفاظ على نقل وتخزين الجليد في مختلف الظروف الجوية مثل التخزين بالصناديق الخشبية.
جهود الرازي
أفرد أبو بكر الرازي (من علماء القرن العاشر الميلادي) لموضوع التبريد وتطبيقاته ثلاث رسائل: الأولى بعنوان (في الماء المبرد بالثلج والمبرد على الثلج)؛ والثانية (في العلة التي يزعم جهال الأطباء أن الثلج يعطّش)؛ والثالثة (مقالة في العلة التي لها يحرق الثلج ويقرح).
ولم نتمكن من معرفة محتوى الرسائل حتى نقيّم ما جاء فيها من أفكار. لكن من الواضح في الرسالتين الأولى والثانية معالجة الرازي لأساليب تبريد الماء بوساطة الثلج الشائع في عصره، ومحاولته التوصل إلى عملية التبريد باستخدام المواد الكيميائية، وبذلك يخفف من عناء الثلاجين بالذهاب لإحضار الثلج من أماكن بعيدة أو تخزينه. أما الرسالة الثالثة فواضح أنه أراد أن يعالج فيها ما يسمى (عضة البرد) Frostbite؛ وهي مرض يصيب جلد أصابع اليدين والرجلين وما تحته من الأنسجة بسبب التعرض للبرد القارس والجليد.
التبريد في المصنفات العربية
ذكر ابن بختويه (المتوفى نحو عام 1029م) في (كتاب المقدمات أو كنز الطبيب) طريقة لتجميد الماء في غير وقته، أشار فيها إلى استخدام (الخل الثقيف) أي المركّز غير الممدد، ومادة (الشب اليماني) التي يقصد بها (ملح نترات البوتاسيوم)، والتي لها خاصية خفض درجة حرارة الماء. وهو ما بينه الباحثان فون كريمر Von Kremer وفيشر Fisher، في القرن العشرين.
وفي الفترة المبكرة في عصر ابن بختويه كان يطلق على نترات البوتاسيوم عدة أسماء، وما وصفه هذا العالم العربي هو طريقة تكرير نترات البوتاسيوم بحلها في الماء ثم تبخيرها ثم تبلورها.
وذكر ابن أبي أصيبعة (توفي عام 1269م) في عدة مواضع في كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) استخدام الثلج في العلاج الطبي لبعض الأمراض. وذكر القلقشندي (توفي عام 1418م) تفاصيل كثيرة عن عمليات نقل الثلج في كتابه (صبح الأعشى في صناعة الإنشا)، فقد خصص الباب الثالث من الخاتمة للحديث عن هجن الثلج والسفن المعدة لحمل الثلج الذي يحمل من الشام إلى الأبواب السلطانية بالديار المصرية.
وكانت عملية الشحن تتم من بلاد الشام إلى مصر بطريقين، أولهما بحري من طرابلس الشام وصولا إلى القصور السلطانية في القاهرة، والآخر بري ينطلق من دمشق ويمر بعدة بلدات وصولا إلى القصور السلطانية. ومن ذلك نستدل على أن مئات الأطنان من الثلج كانت تشحن سنوياً من بلاد الشام إلى مصر، وهذا يدل على أنها كانت صناعة قائمة بحد ذاتها.
وأكد ذلك المؤرخ أبو البقاء عبدالله البدري (توفي عام 1488م) في حديثه عن الثلج في دمشق، حين ذكر أن الناس كانوا يخزنون الثلج في دمشق بعد أن يحضروه من جبل الشيخ أو جبل الثلج لمدة سنة كاملة ضمن مخازن خاصة لذلك، ومن دمشق كان يصدّر الثلج المخصص للسلاطين في مصر.
في الحروب والصناعة
استخدم التبريد في الحروب أيضا، فقد تطرق إبراهيم بن غانم الرياش الأندلسي (توفي عام 1638م) في كتابه (العز والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع) إلى طريقة كيميائية كانت تستخدم في تبريد المدافع المصنوعة من النحاس بسرعة، وذلك حتى لا ينتظروا تبردَّها في الهواء. وكان الرياش يدرك تماماً أن تبريد المدفع السميك يختلف عن تبريد المدفع الرقيق، فالمدفع السميك القوي يسخن ببطء، أما الرقيق التصفيح أو الرهيف فإنه يسخن بسرعة بسبب شدة الحرارة، ويمكن الاستدلال على سخونة وبرودة المعدن من خلال رنينه الذي يختلف بين الحالتين.
ويحدثنا المؤرخ الحلبي خير الدين الأسدي (توفي عام 1971م) في كتابه (موسوعة حلب المقارنة) عن استخدام الثلج لنقل بعض الأطعمة التي تحتاج إلى تبريد من مدينة إلى أخرى للمحافظة عليها من الفساد.
التبريد في المجتمع العربي
كان الشراب المبرّد أو المثلّج معروفاً منذ أيام الأمويين، وكان بعض الخلفاء يحملون معهم الثلج في أسفارهم. واشتهر استخدام الثلج في الطب بالأندلس في مجالات عدة. وكان للعلماء العرب والمسلمين بصمات بارزة في صناعة التبريد وخزنه ونقله منذ القرن العاشر الميلادي، فقد حاولوا أن يبتكروا وسائل ومواد تمكنهم من تبريد الماء في أي زمان ومكان دون الحاجة إلى تخزين الثلج أو نقله من مكان إلى آخر.