أحمد عبد الحميد
كاتب ومحرر
لطالما مثّل الإبداع مورداً متجدداً ومستداماً لا ينضب في أيّ رقعة في العالم، وفي أي مجتمع شهدته البشرية على مدار تاريخها. ولطالما رأى عدد كبير من الباحثين والخبراء أنه يُشكل ذروة التنمية الشاملة للجميع، باعتباره يُشجِّع ويُعزِّز التنوع في الثقافة والأفكار والتفكير بأسلوب ديمقراطي، ويشمل في منظومته الأبعاد الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية والاجتماعية.
وإذا كان الإبداع هو صناعة الغد، فإن الاقتصاد الإبداعي غدا مؤثرا فاعلا في حياة الأمم والشعوب، ورقما مهما في اقتصادات الدول؛ فهو يزداد اتساعا وانتشارا، ويحتضن طيفاً متنوعاً من الجهات الفاعلة. وتمثل القطاعات الثقافية والإبداعية صميم هذا الاقتصاد النشيط، إذ تمثل نقطة التقاطع بين ميادين الفنون والثقافة والتجارة والتكنولوجيا. ويدرّ القطاع نحو 2250 بليون دولار أمريكي سنوياً، فضلا عن اعتباره أسرع القطاعات نمواً في العالم، وإسهامه بنسبة 3 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وإذا ما قارنّاه بغيره من مجالات العمل، لوجدنا أنّه يوفّر عدداً أكبر من فرص العمل للشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و25 عاما ربما تبلغ 30 مليون فرصة.
أزمة المناخ وجائحة كورونا
حين اختارت الأمم المتحدة وعدد من منظماتها الفرعية سنة 2021 (السنة الدولية للاقتصاد الإبداعي من أجل التنمية المستدامة) كان الاختيار متميزا وصائبا وفي الوقت المناسب له؛ إذ أصابت جائحة كوفيد-19 الاقتصاد الإبداعي بالشلل، ولم يَسلم طيف القيمة الإبداعية من تأثير الجائحة، بدءاً من التصميم، مروراً بالإنتاج والتوزيع، وانتهاءً بتعميم الانتفاع بهذا الإبداع. إضافة إلى ذلك، أسهمت الأزمة الصحية في إبراز مواطن الضعف القائمة في كنف قطاع الثقافة، وتأجيجها. ولم ينعم المثقفون والفنانون والعاملون في قطاع الثقافة بصورة عامة بذات المساعدات المجتمعية والاقتصادية التي مدّت العاملين في قطاعات أخرى بطوق النجاة. وعلى الرغم من تزايد استهلاك البشرية للمحتوى الثقافي عبر الإنترنت، فقلّما يحصل المبدعون في المجالات الفكرية والثقافية على أجور عادلة مقابل تصفحنا واطلاعنا على محتواهم.
وبيّنت الأزمة الصحية مدى أهمية الإبداع من أجل استمرار البشرية. فقد شهد عام 2020 اهتماماً متزايداً بالفنون والثقافة، الأمر الذي يجعل من عام 2021 التاريخ الأنسب للاحتفاء بالاقتصاد الإبداعي والاستثمار فيه. وفي الوقت الذي تواجه فيه المجتمعات أزمة المناخ والجائحة، غدت قدرة الإبداع على تعزيز تنمية شاملة محورها الإنسان أكثر أهمية من أيّ وقت مضى. إضافة إلى ذلك، نشهد حاليا عدداً متزايداً من الأشخاص الذين يحوّلون أفكارهم إلى سبل للعيش الكريم في شتى أنحاء العالم.
وتضطلع منظمة التجارة والتنمية التابعة للأمم المتحدة (أونكتاد) بتنفيذ (السنة الدولية للاقتصاد الإبداعي من أجل التنمية المستدامة)، بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للثقافة والتربية والعلوم (يونسكو) وغيرها من الكيانات ذات الصلة في منظومة الأمم المتحدة.
وبصفتها الوكالة الوحيدة في منظومة الأمم المتحدة التي لها تفويض محدد في مجال الثقافة، تضطلع (يونسكو) بإبراز وتعزيز المساهمة التي تقدمها الثقافة لكل من الاقتصاد الإبداعي العالمي والتنمية المستدامة في عام 2021.
وباعتبارها إحدى الجهات المتخصصة في الأمم المتحدة، تسهم المنظمة العالمية للملكية الفكرية (ويبو) في تحقيق أهداف التنمية المستدامة عن طريق توفير خدمات متقنة لدولها الأعضاء، كي تستخدم نظام الملكية الفكرية في دفع قاطرة الابتكار والتنافسية والإبداع، وجميعها عوامل ضرورية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. والملكية الفكرية محفّز حاسم للابتكار والإبداع، وهما بدورهما مفتاحا نجاح أهداف التنمية المستدامة. فوحدها براعةُ العقل البشري كفيلة بتطوير حلول جديدة من أجل القضاء على الفقر، وتعزيز الاستدامة الزراعية وضمان الأمن الغذائي، ومحاربة الأمراض، وتحسين التعليم، وحماية البيئة وتسريع الانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون، وزيادة الإنتاجية.
استثمارات مجدية
مع استمرار جائحة كورونا، برزت مخاطر تعريض الاندماج والتنمية للاقتصاد الإبداعي بنسبة مرتفعة، حيث يمكن أن تصبح خسائر الإيرادات للقطاع دائمة، وبخاصة لفئة الشباب. وهنا وجب علينا المواءمة بين المجتمع والحكومات المحلية والمبادرات الدولية على نطاق واسع، لدعم الاقتصاد الإبداعي والاستثمار فيه في عام 2021، كما قالت رئيسة برنامج الاقتصاد الإبداعي في (أونكتاد) ماريسا هندرسون، مضيفة إن أهمية الاقتصاد الإبداعي تكمن كجزء من الحل للانتعاش والتعافي العالمي في بعد جديد، حيث قد يؤدي الاستثمار المؤثر دورًا حاسمًا في هذه المرحلة. وبينما يعد الاستثمار في الاقتصاد الإبداعي ناشئا، فإن هناك أمثلة متزايدة من المستثمرين المهتمين في إطلاق أدوات استثمارية تربط الاستثمار المستدام والمؤثر بالاقتصاد الإبداعي.
أما إيزابيل دورانت نائبة الأمين العام لـ (أونكتاد)، فقالت إن قرار الأمم المتحدة باعتماد تلك السنة الدولية جاء في الوقت المناسب؛ “فالصناعات الإبداعية حاسمة لجدول أعمال التنمية المستدامة. فهي تحفز الابتكار والتنويع، وتشكل عاملا مهما في قطاع الخدمات المزدهر، وتدعم ريادة الأعمال، وتسهم في التنوع الثقافي”.
وفي نوفمبر من عام 2020، اعتمدت الأمم المتحدة قرارا أعلن عام 2021 (السنة الدولية للاقتصاد الإبداعي من أجل التنمية المستدامة). ودعمها 81 بلدا، وهو تأييد وصفته الأمم المتحدة بأنه “رنين لقطعة من الاقتصاد العالمي يساء فهمها وتفسيرها في كثير من الأحيان”. واستهدفت الأمم المتحدة من تلك السنة تعزيز النمو المستدام والشامل، وإبراز دور الثقافة في الاقتصاد الإبداعي العالمي والتنمية المستدامة.
ومن خلال تتبعها التجارة في السلع والخدمات الإبداعية لنحو 20 عاما، تقول (أونكتاد) إن معدل نمو صادرات الاقتصاد الإبداعي تجاوز في كثير من الأحيان معدل نمو الصناعات الأخرى. وتضيف: “لا توجد تقديرات جديدة للاقتصاد الإبداعي في 2020 حتى الآن، لكن بسبب كوفيد – 19، تبدو الآفاق قاتمة. من هنا تأتي الحاجة الملحة إلى تعزيز وحماية الصناعات الإبداعية التي تشكل الاقتصاد الإبداعي، ولا سيما في العقد الذي تركناه لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. من دونها، من غير المرجح تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية وتمكين المرأة والأهداف الثقافية والأهداف الخاصة بتخفيف حدة الفقر”.
عوائد الثقافة
والاهتمام المتزايد على مستوى العالم بالثقافة وما تقدمه من مؤشرات مهمة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة للألفية دفع منظمة (أونكتاد) إلى إجراء دراسات عدة تهدف إلى الكشف عن إسهامات الثقافة في التجارة العالمية. وتبين أنه في عام 2011 حققت عوائد الثقافة نحو 624 بليون دولار، أي أكثر من ضعف الرقم المحقق في عام 2002، في حين أن النمو في صادرات السلع الإبداعية من البلدان النامية بلغ في المتوسط 12% سنويا خلال الفترة نفسها.
وفي عام 2015، كان الاقتصاد الإبداعي يمثل نحو 3 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، لكن تقديرات الأمم المتحدة أعلى من ذلك بكثير عندما تضاف القيمة الثقافية إلى مكاسبها التجارية. ففي إندونيسيا، يسهم الاقتصاد الإبداعي بنسبة 7.4 % في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، ويوظف 14.3 % من القوى العاملة في البلاد، من الحرف إلى الألعاب، والأزياء إلى الأثاث.
لكن الأمم المتحدة تقول إن الإمكانات غير المستغلة في الاقتصاد الإبداعي، ضخمة. وفي بريطانيا، قدمت الصناعات الإبداعية مساهمة قياسية في الاقتصاد في 2017، حيث أسهمت في رفد خزائن البلاد بما لا يقل عن 101.5 بليون جنيه استرليني. وقد نمت هذه الصناعات بمعدل ضعف معدل نمو الاقتصاد تقريبا منذ 2010. ويقول خبراء (أونكتاد) إن الاقتصاد الإبداعي قطاع اقتصادي ناشئ قوي، تعززه الرقمنة والطفرة في الخدمات، وأسهمت الجائحة في هذا التعزيز. ويتوقع هؤلاء أن تنمو مساهمة الاقتصاد الإبداعي في الناتج المحلي الإجمالي بقوة، وإذا أمكن تسخير الاتجاهات الرئيسة لهذا الاقتصاد، “فقد نعيش في عالم أكثر إبداعا في المستقبل”.
مجالات الاقتصاد الإبداعي
والاقتصاد الإبداعي ليس جديدا؛ فإذا كنت تحصل على البث الخاص بك على الإنترنت أو كنت تشتري الأخبار الخاصة بك من موقع إخباري، أو تشترك في خدمة بث الترفيه، أو تذهب إلى دور السينما، وتشتري الملابس أو الأثاث عبر الإنترنت، أو كنت تقرأ كتابا أو تستمع إلى مقطوعة موسيقية تبث من فعالية ثقافية حية أو عبر الإنترنت، فإنك تستهلك منتجا إبداعيا أو خدمة. والأشخاص عادة يتصورون ثم يرتبون وينظمون هذا العمل الإبداعي، أولا، قبل أن ينتجوه أو ينشروه بهدف الحصول على مبالغ مناسبة. لا يختلف هذا النشاط، في الواقع، عن عمليات الإنتاج الأخرى، باستثناء أن المدخلات الرئيسية تنبع من الملكية الفكرية الأصلية أو القابلة لحقوق الطبع والنشر.
ومن ثم، فإن الاقتصاد الإبداعي يغطي الأنشطة الاقتصادية القائمة على المعرفة التي تقوم عليها “الصناعات الإبداعية”. وتشمل هذه: الإعلان، والعمارة، والفنون والحرف، والتصميم، والأزياء، والأفلام، والفيديو، والتصوير الفوتوغرافي، والموسيقى، والفنون الأدائية، والنشر، والبحث والتطوير، والبرمجيات، وألعاب الحاسوب، والنشر الإلكتروني، ونشاطات التلفزيون والإذاعة.
ومع إغلاق الجائحة مجالات تقليدية من الحياة، لجأ معظم الأشخاص إلى إيقاظ مواهبهم، وحرفهم، وقراءة الكتب، ومشاهدة المسلسلات والأفلام أو الحفلات الموسيقية الرقمية، أو التسوق عبر الإنترنت. وهؤلاء ساعدوا على الحفاظ على الاقتصاد الإبداعي، الذي نال أخيرا يومه الخاص به، أو على نحو أدق، (عام الاقتصاد الإبداعي في الشمس)، وفق تسمية الأمم المتحدة.
وتزدهر اليوم الأعمال اليدوية في سوق الفن وفي السياحة والترفيه، وتبلغ قيمة هذه السوق في الصين 15 بليون دولار، وتنمو سوق الفنون على نحو غير مسبوق، وتشتمل أسواق الفنانين المحترفين الكبار على نحو 12 بليون دولار، وتبلغ قيمة اقتصاد التصميم 140 بليون دولار، ويساوي الاقتصاد العالمي في مجال البرمجيات 600 بليون دولار، ويبلغ اقتصاد تصميم الأزياء 60 بليون دولار، وتنتج صناعة الأفلام نحو ثلاثة آلاف فيلم في العام تبلغ قيمتها نحو 80 بليون دولار، ويحقق قطاع الموسيقى في العالم أيضا 80 بليون دولار سنويا، وتبلغ قيمة الاقتصاد في المسرح 50 بليون دولار، وتبلغ قيمة السوق العالمية للكتب والمجلات والصحف 126 بليون دولار.