د. نزار خليل العاني
باحث، وأكاديمي سابق في عدد من الجامعات، سورية
كتبتُ على صفحات هذه المجلة منذ نحو خمس سنوات مقالة بعنوان (الأوبئة في الأدبيات والمدونات غير العلمية)، أظهرت فيها وجود تلازم بين الوباء والإنسان على مر التاريخ. ويتعرض العالم حاليا لسطوة فيروس درجنا على تسميته (كورونا) أو (كوفيد (COVID19، وارتأيت أن أشارك القراء بهذه المقدمات الفلسفية والفكرية، بعد أن خاض الكثيرون في الجوانب العلمية.
وجاء في خاتمة مقالتي السابقة عن الأوبئة: “الوباء هاجس مقلق للبشرية. وقائمة الأوبئة التي أثقلت تاريخنا بمئات الملايين من الموبوئين، الذين قَضَوا والذين عاشوا، طويلة جداً وباتت معروفة، وماتزال المعركة بيننا وبينها حامية الوطيس، والأمل أن النصر النهائي سيكون للإنسان لا للفيروس”.
وآخر فصول هذه المعركة الحامية جدا هو جائحة كورونا الجامحة. وخلال خمسة أشهر – وربما تطول- حدث طوفان من الكتابات والتعليقات حولها، حتى بات كل من يعرف القراءة والكتابة خبيراً واختصاصياً بارعاً فيها. لذا سأتطرق إلى أمور فكرية وفلسفية حول جموح الفيروس الحالي، وليته كان على شاكلة سلفه الحنون (كيوبيد) الذي كان يفترس القلوب العاشقة بسهمه الجميل المسموم وينشر الحب! لكن سهم (كوفيد) نشر الكراهية والرعب والعزلة والخراب الاقتصادي والموت!
مبادئ الفعل العضوي
في البدء نقف عند أرسطو (385 ق م – 323 ق م) الذي يقسم أعضاء أو أجزاء الأحياء (بشيء من التجاوز نقول العضوية) إلى متشابهات ومختلفات، ويعلق محقق كتابه (أجزاء الحيوان) الدكتور عبدالرحمن بدوي على هذا التقسيم قائلاً: كما نقسم اليوم الأحياء إلى فقاريات ولافقاريات. وعلى صعوبة فهم مقاصد أرسطو في شرحه لمبادئ علم الحياة، يمكن القول – بلغتنا العلمية اليوم- إن أجزاء العضوية تتشابه إما (بالجوهر أو بالعمل)، وهي تتفاعل باستمرار، والعملية التبادلية أكثر حدوثا بين الأشباه؛ بين أفراد العضويات مثلا على حدة، ومفردات الجمادات على حدة.
ويتفق العلماء على أن فيروس كورونا المستجد غير حي؛ لأنه لا يتكاثر إلا بوساطة خلية حية، وأن سمة الحياة الأولى هي التكاثر الذاتي، ومن ثم ما كان لهذا الفيروس غير الحي أن يسطو على الكائن الحي، وأن هذا السطو يلغي نظرية أرسطو في التفاعل بين المتشابهات. لكنني أعتبر أن هذا الفيروس بنيوياً يملك مادة الحياة وحروفها الأولى، وأقصد الدنا DNA والرنا RNA، وهو إذًا يملك مفاتيح الحياة ومخططها الجيني البدئي، لذا لا أحشره مع الجمادات.
وثمة مفهومان لهما علاقة بكورونا في فكر أرسطو ومعرفته ببيولوجيا الأحياء:المفهوم الأول ألانستهين بفعل الكائنات الدنيا، وبلغته “طباع الحيوان الحقير أو الحيوان غير الكريم”، فمهما تدنّى الكائن فإن له بالطبع أو الفطرة قصدا. وجبروت الإنسان جعله يستخف بهذا الحقير غير الكريم، ومثاله إهمال الإنسان لبطش (كوفيد 19)؛ والمفهوم الآخر هو (المواءمة)، أي إن الكائنات في الفعل ورد الفعل تعتمد مبدأ الاصطفاء. والمثال على ذلك اختيار (كوفيد19) لخلايا الرئة لا غيرها. ويبقى كتاب (أجزاء الحيوان) شاهداً على قوة الملاحظة والحدس والاستنتاج المنطقي الرائد.
الإنسان يحفر قبره
يرى المؤرخ أرنولد توينبي (1889 – 1975) أن البشرية والأحياء والجمادات يعيشون على الأرض في المحيط الحيوي، ويستعير هذه الكلمة من الفيلسوف الفرنسي تيار دو شاردان، وكل عناصر وموجودات ومكونات هذا المحيط العضوية وغير العضوية وأنواعها في حالة عمليات تبادل وتنافس لا تهدأ ولا تتوقف أبداً. فهل فيروس كورونا يقتل الإنسان ليحافظ بالنيابة عن زمرته على حق النوع في البقاء؟
كيف نفسر هذا الحراك الأزلي المستمر في التنازع على البقاء؟ لن أخوض في هذه المسألة التي استغرقت جهود مئات من الفلاسفة والمفكرين والعلماء خلال مئات السنين، وسأقف فقط عند مقولة لإخوان الصفاء تعني الكثير: “إن الطبيعة لم تفعل شيئاً باطلاً”، ويصفون هذه القضية بأنها كلية صادقة، إذ ليس شيء من الموجودات بلا فائدة ولا عائد، بل ما من شيء إلا وفيه جرّ لمنفعة أو دفع لضرر.
ويقول العلم إن زمن الكون والأرض تدحرج على مدى نحو 5ر4 بليون سنة، واكتمل (المحيط الحيوي) الصالح للحياة منذ بليوني سنة، في حين تقول الفلسفة إن تاريخ الطبيعة وبيئة الحياة محكومة في قبضة قوانين لا يأتيها الباطل. وفي المقابلة بين العلم والفلسفة أجدني منحازاً إلى العلم الذي يرى جدلاً محتدماً وصراعاً لم ولن يهدأ بين الإنسان والطبيعة، وخلاله فنيت آلاف الأنواع من النباتات والأحياء الدنيا والكائنات الحية المتطورة، وما الفحم الحجري سوى الدليل القاطع على ذلك الفناء.
الأحياء الشبيهة بالإنسان هي شجرة وارفة تفرعت أغصانها وتباينت، وتمايز عنها الإنسان العاقل في غصنها الأعلى كما يقول توينبي، وقد عاشوا منذ 20 إلى 25 مليون سنة، ومن هؤلاء نوع الهيلوباتيدا hylobatidae مثل الغبون Gibbon أو من نوع البونغيدا pongdae مثل الأوران-أو تانغ أو الشمبانزي أو الغوريلا. وفيما بعد -مع تجاوز الحقب الكرونولوجية- إنسان نياندرتال وإنسان بكين والإنسان الأسترالي البدائي.
ويرى توينبي في كتابه (تاريخ البشرية) أن الإنسان العاقل Homo Sapiensبعد انبثاق الوعي أقدم على كسر قانون الانتخاب الطبيعي في منظومة (المحيط الحيوي) وإلغائه، واستعاض عنه بقانون مُحدث هو الانتخاب البشري، ما أدّى إلى خلخلة التوازن البيئي الدقيق الذي استمر ملايين السنين. ويقول: “الإنسان هو أول نوع من الكائن الحي في محيطنا الحيوي الذي اكتسب القوة التي تمكنه من تحطيم المحيط الحيوي، وبتحطيمه يقضي على نفسه”. وبدأت هذه المأساة بعملية التعدين التي ورطت الإنسان بالوقوع في شرك التكنولوجيا واستنزاف الموارد وتلويث البيئة وإنهاك التربة الزراعية. ويرى توينبي أن الوصول إلى هذه الذروة “قد يكون إبادة تامة للحياة”. وهي نظرة تشاؤمية وسوداء، لكنها محتملة، والشاهد ما حصل في هيروشيما وناغازاكي وتشيرنوبل، ومؤخراً فداحة عواقب كورونا.
السقوط التكنولوجي
توينبي ليس الوحيد الذي يهجو التكنولوجيا ويعتبرها بمثابة الشرك والفخ والقبر المحتمل للإنسان، بل يؤازره كثيرون من الفلاسفة والعلماء والمفكرين والشعراء، ومنهم الشاعر والفيلسوف الألماني فريدريش جيورج يونيغر( 1898 – 1977) الذي يرى في كتابه (سقوط التكنولوجيا) أن “تطور التكنولوجيا لا يفضي إلى تدهورٍ وتردٍ مستمرين للقيم الروحية والأخلاقية والحضارية فحسب، بل وإلى انقراض للجنس البشري ذاته”. ويتضمن كتابه رثاء حارا وعميقا لحضارتنا ومدنيتنا المعاصرة. والسبب أن الحاضر الإنساني بكل أساليبه ومعاييره وقيمه وعقائده وقع في قبضة التنظيم الميكانيكي المتوحش، وفي قبضة شرور الأتمتة القاتلة لروح الإنسان. يقول يونيغر:”هي التكنولوجيا التي تفسد الهواء بالأدخنة، وتسمم الماء بالملفوظات، وتميت كل نبت وحيوان، حتى لقد أحدثت حالة يستوجب معها القيام بإجراء ضروري للمحافظة على الطبيعة … هنا تحتكر ثروات الأرض وتستنفد …والإنسان شأنه شأن المواد الخام، ينتمي إلى سلسلة المصادر المعرضة للاستهلاك من قبل التكنولوجيا”. وهناك نُذر كثيرة تهدد بالفناء والهلاك، ومنها جائحة كورونا.
ويشعر يونيغر بعواقب وخيمة لمهنة الطب والأطباء حين يقول:” إن التنظيم التقني يحكم بيد من حديد حقل الطب العام، فهو يسيطر على الطبيب سيطرته على المريض، ويتحكم في طرق المداواة والعلاج دون أي وازع”. ويجزم بأن السرطانات تنتج عن اصطناع عوامل تخل بتوازن العضوية، وتؤدي إلى تفشي الأورام الخبيثة. وهو لا يستبعد حدوث أخطاء مختبرية فادحة يرتكبها التقني قد تفضي إلى ما لا يحمد عقباه. ويذكر بهذا الصدد حادث غرق التايتانيك التي كانت أيقونة التكنولوجيا في زمانها!
ويعلم الجميع كيف تضاربت الآراء، وكيف اختلفت المدارس الطبية والهيئات الصحية الوطنية والدولية على تشخيص (كوفيد19) وعوارضه وعلاجاته المقترحة، وما كان لهذه الفوضى العلمية أن تحدث لولا تضارب المصالح، وكذلك خروج الاتهامات بأن الفيروس جرى تصنيعه في المختبرات، وربما تسرب بفعل خطأ بشري كما تنبأ يونيغر منذ سنوات طويلة.
جزيرة هكسلي الآمنة
آخر الكبار الثلاثة الذين استاؤوا من هوس الإنسان وجهله وطيشه وعبثه التدميري لبيئة الحياة واتزانها لملايين السنين بعد توينبي ويونيغر هو ألدوس هكسلي (1894-1963).
ومثل كل كبار المفكرين الذين كتبوا (اليوتوبيات) في التاريخ، كأفلاطون والفارابي وبيكون، أجمع كل هؤلاء على عدم الرضى عن سمات حضارتنا الحديثة، وهربوا بأحلامهم إلى بناء المدن الفاضلة الخالية من شوائب الواقع، ومن الجشع والظلم والقهر والكراهية، ومن رائحة الأوبئة، حتى إن بعضهم، مثل ابن طفيل في (حي بن يقظان) ودانييل دي فو في (روبنسون كروزو)، أضمروا في كتابتهم الرغبة في الفردانية والعيش في جزر منعزلة، وكأنهم يُحمّلون مبدأ الاجتماع البشري أوزار الحياة وآثامها، وهم حقاً على فطنة واسعة.
في رواية (الجزيرة) العبقرية التي لم تأخذ حظها من الشهرة في عالمنا العربي، يرسم هكسلي حدود وإحداثيات مدينته الفاضلة وفق القيم الإنسانية العليا، التي تبدأ سطورها الأولى بنقد واقعنا الحضاري المزري الموبوء والمُتمثل في “رائحة الفورمالدهيد .. والممرضة والاحتضار والموت”، وآخر كلمة/صرخة في النص الروائي الذي يربو عدد كلماته على مئة ألف كلمة هي: انتباه! ودواعي هذه الصرخة عند هكسلي هي ما تفعله سلطات الهيمنة العالمية، حيث ” في كل مكان، قبائل الحمقى والبله والمنقادين، والكذابون والمحترفون، ومتعهدو تقديم التسالي الشاذة والمتع المنحطة”، وما يفعله أصحاب القرار في “بدروم الصفقات الرخيصة ومزبلة السوق”، وهكذا تغيب الحقائق وتتعاظم المفاسد، وتتفاقم الحروب وتتعالى طقوس القتل والأحزان، ويفضي العجز إلى “أن ما تم إنجازه في مئة عام، قد دمر في ليلة واحدة”.
في محنتنا الحالية مع (كوفيد19) تبنّى بعض الناس مفهوما مفاده أن الفيروس ربما كان عقوبة للآثمين والخطّائين، وأنه اختبار سماوي لتعزيز الإيمان في صدور الصابرين. والغريب في الأمر أن هكسلي يتناول هذا المفهوم بين القبول والرفض في روايته التي مضى على تأليفها نحو 60 سنة.
ففي ثنايا الرواية يجري في جزيرة بالا عرض لمسرحية أوديب الملك، وفي المسرحية ينتشر وباء فيروسي غامض وقاتل يحصد آلاف الأرواح. وترفض ماري، إحدى شخصيات الرواية، ما تقوله المسرحية حول زواج أوديب من أمه، وأن هذا الزواج غير المقصود “هو السبب في أن يموت كل الناس بسبب فيروس أو جرثومة معدية؛ فليس هذا إلا هراء”. ويقدم الكاهن في المسرحية هذا العلاج للوباء: “إننا نردد الصلوات والابتهالات المناسبة. إننا نقدم أغلى الأضاحي، وقد جعلنا كل السكان يعيشون في أقصى حالات الطهر والنقاء ويجلدون أنفسهم كل يوم اثنين وأربعاء وجمعة. لكن طوفان الموت ينتشر في اتساع متزايد، ويرتفع أعلى فأعلى”. رأيان متقابلان في المسرحية، الأول يقول: “توبوا، فالخطيئة سبب الوباء”، والآخر يقول: “القذارة هي السبب؛ فاغتسلوا”. أنقل من الرواية، وأتخيل هكسلي مازال حياً بيننا، ويصف انقسامنا ومشاعرنا حول هذا الوباء اللغز الذي داهمنا في هذه الأيام!
خاتمة
تمر البشرية بفترة عصيبة، وتعالج الدول هذه الجائحة بأساليب شتى، فهي تنشر تقارير صارمة، وتذيع أغاني ساخرة، وتصدر آلاف التخمينات والتقديرات، وتجهز الغرف الإعلامية للمتابعة. لم يعد أمامنا سوى العيش سجناء في الدوامة، فيما آلاف الباحثين في المختبرات يفتشون عن حلول، ومن هشاشة حضارتنا يكاد العالم ينهار. وقصارى القول بعد كل هذه السرديات هو إن الإنسان المعاصر بجهله وأنانيته وغروره وطيشه كأنه يخطط لنهايته المروعة.