د. حسن أشكناني
أستاذ علم الآثار والأنثروبولوجيا، المشرف على متحف ومختبر الآثار والأنثروبولوجيا،
جامعة الكويت
متى ظهر الإنسان على كوكب الأرض؟ وكيف استطاع إنسان العصور الحجرية الوصول إلى حجر الصوان وتصنيع سواطير ومكاشط ورؤوس سهام واستخدامها خلال نحو 2.4 مليون سنة؟ هل هناك علاقة بين التغير المناخي ولجوء الإنسان إلى بناء القرى والاستقرار واختراع الزراعة واستئناس الحيوانات؟ هل البقايا المادية التي يكتشفها علماء الآثار تستنطق الحالة الطبقية الاجتماعية والتطور السياسي وأدوار الذكور والإناث والاقتصاد المركزي والتجارة الحرة والمعتقد الديني في المجتمعات القديمة؟ كيف يمكن للأجهزة المختبرية المتطورة فحص الفخاريات من مواقع العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي في الكويت وكشف علاقتها مع تطور المجتمع والتعقيد الاجتماعي والتقدم الاقتصادي؟
يبحث علماء الآثار دائما عن إجابات علمية لمعرفة تفاصيل السلوك البشري في فترات زمنية غابرة تمتد إلى ما يعتقد أنه أول ظهور للإنسان على كوكب الأرض قبل أكثر من 2.4 مليون سنة، وعن الكيفية التي بدأت بها السلالات البشرية تنتشر عبر القارات من خلال هجرات تولدت بسبب طبيعة الثقافة السائدة آنذاك بمطاردة الحيوانات من منطقة إلى أخرى واصطيادها، وكذلك جمع النباتات لإشباع حاجاتها الأساسية. وإضافة إلى دراسة الحضارات البشرية وتقسيماتها الزمنية من عصور حجرية ونحاسية وحديدية (نسبة إلى المواد التي اعتمد عليها الإنسان في صناعاته) وعصور ما بعد الميلاد، فقد اهتم علماء الآثار بمعرفة السلوكات اليومية للمجتمع البشري القديم والتعمق في تفاصيل حياته السياسية والاجتماعية والفنية والاقتصادية والفكرية والدينية، من خلال تتبع التطور الزمني والانتشار المكاني للآثار المكتشفة.
وعلى الدرجة نفسها من الاهتمام بالسلوك والثقافة، بدأت تظهر الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) لدراسة ثقافة الإنسان وأثر ذلك على جميع مناحي الحياة، بما فيها الجانب الصحي والبيولوجي (على سبيل المثال، كيف يؤثر مفهوم استمرار عادات الديوانية والمصافحة والزيارات الاجتماعية في انتشار فيروس كورونا)، وكذلك دراسة عوامل استمرار الأنماط الثقافية ودوافع تغيرها واندثارها (مثال ذلك، أثر التكنولوجيا في اختفاء عادة لقاءات شاي الضحى أو تغير تفاصيل طقوس العرس الكويتي التقليدي أو تحول اللهجة الكويتية خلال الخمسين عاما الماضية). ومن ثم، أصبحت الأنثروبولوجيا المظلة العلمية الشاملة لدراسة كل ما يتعلق بثقافة الإنسان ومكوناته وحوافز بقائه ودوافع تغييره، وأثر تلك الثقافة في مجمل الوعي المحيط بالإنسان في هذا الكون.
المدرسة الأمريكية وعلم الآثار
في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين الميلادي جاءت المدرسة الأنثروبولوجية الأمريكية لتضم إلى اهتماماتها دراسة تفاصيل حياة الشعوب القديمة والمندثرة والكشف عن معالم ثقافتهم من خلال دراسة المخلفات المادية التي تركها الإنسان قديما، فأصبح علم الآثار أحد الفروع الأربعة الرئيسية لعلم الإنسان إلى جانب الأنثروبولوجيا الثقافية، والأنثروبولوجيا اللغوية، والأنثروبولوجيا البيولوجية، التي تشمل اهتماماتها منظورا أبعد من التنقيب الأثري ووصف المكتشفات وتعريف أنواع الثقافات ومستويات الحضارات لتصل إلى مستوى متطور في تحديد الفترة الزمنية بطريقة علمية مطلقة وثابتة، والكشف عن النظم الاقتصادية والاجتماعية، وتحليل أجزاء الثقافة وتغيرات ملامحها إما لدوافع بيئية أو اجتماعية، مما شجع علماء الأنثروبولوجيا الأثرية على البحث عن الأتربة وبقايا النباتات وعظام الحيوانات، ودراسة الغبار المتراكم في قاعات البحار للكشف عن تأثير التغير المناخي على حياة الإنسان. فمثلا، بدأ عالم الآثار البريطاني غولدن شايلد (1902 – 1972) بخطوة رائدة تضمنت ضم الدراسات البيئية في علم الآثار، بل واعتبارها المحفز الأعظم لتشكيل الثقافات والحضارات القديمة (عادة ما نشير إلى فترة العصور الحجرية والنحاسية منذ ما قبل مليوني سنة إلى 3000 قبل الميلاد بفترة ما قبل الحضارات أو كما يعرف بفترة ثقافات ومجتمعات ما قبل التاريخ).
أما علم الآثار في أمريكا فقد بدأ بنقطة تحول بارزة عام 1949 مع اختراع العالم الأمريكي الكيميائي ويلارد ليبي طريقة التأريخ بالكربون 14 المشع (طريقة تأريخ مطلقة للقطع الأثرية العضوية التي يمكن تأريخ وفاتها بشكل دقيق إلى ما قبل 60 ألف سنة من خلال تحليل النظائر الكيميائية لعنصر الكربون المتبقية في عظام الحيوانات والإنسان وبقايا النباتات). ونتجت هذه الخطوة عن تطور هائل في استخدام التكنولوجيا في علم الآثار، فنشطت الأبحاث الفيزيائية والكيميائية والجيوفيزيائية المشتركة مع علم الآثار لتطوير أجهزة قادرة على كشف تفاصيل أكثر عن القطع الأثرية الموجودة في باطن الأرض أو في أعماق البحار، والاستدلال عن جزئيات دقيقة من حياة الإنسان، إضافة إلى المحاولات العلمية في تطوير النظريات الأثرية لاسيما في الستينيات من القرن العشرين مع عالم الآثار الأمريكي لويس بنفورد (1931 – 2011) الذي أسس حركة “النظرة الجديدة” في النظرية الآثارية، التي تتمحور حول استخدام الجدل المنطقي لدراسة المسببات العلمية لظاهرة الثقافة في المجتمعات القديمة بدلا من المنهج الوصفي.
وبهذا خطت الأنثروبولوجيا الأثرية نحو دراسة كل ما هو محيط بالبقايا المادية للتوصل إلى إجابة جلية عن ماهية الإنسان والكيفية التي ولدت بها ثقافته وانتشرت، بل والبحث عن ظواهر ثقافية معقدة مثل مفهوم “التفضيل والاستحسان المجتمعي” و”العولمة” في الحضارات القديمة، وهو المفهوم الذي بدأ زمنيّاً مع فتح الأسواق الإقليمية والتواصل الحضاري والتبادل التجاري المكثف في العصر البرونزي (أي قبل نحو 4500 سنة)، بزعامة أولى الأسر الحاكمة في الحضارة السومرية ببلاد وادي الرافدين، وأسر وملوك الحضارة المصرية القديمة في وادي النيل، مع مناطق وحضارات أخرى مثل حضارة ملوخا في وادي الهند وباكستان، وحضارة ماجان في سلطنة عمان، وحضارة دلمون في مملكة البحرين وجزيرة فيلكا في الكويت والمنطقة الشرقية في السعودية، وحضارة عيلام في الهضبة الإيرانية، وحضارة الحثيين في جنوب تركيا.
أسلوب الإنتاج
في إطار الكشف عن مفاهيم اجتماعية واقتصادية في الأنثروبولوجيا الأثرية يعتبر حقل “أسلوب الإنتاج” من أبرز المصطلحات التي تحاول النظريات الأثرية من خلاله إيجاد تفسير علمي وتعميم منطقي لارتباط ظاهرة أسلوب إنتاج المواد الأولية وتحويلها إلى منتج استهلاكي أو اجتماعي رمزي (على سبيل المثال، فخاريات للاستهلاك اليومي، أو ختم من حجر اليشم مقابل أختام من الحجر الصابوني)، وآلية توزيع المنتجات، وطريقة استهلاك المنتج، وتحديد مصدر التصنيع، وموقع المادة الأولية، وصولاً إلى درجة عالية من التفسير الأنثروبولوجي حول ارتباط مفهوم أسلوب الإنتاج بالسلطة السياسية والطبقة الاجتماعية، واحتياجات سوق العمل، والكشف عن درجة ارتباط الطبقة العمالية أو الحرفية بالسلطة السياسية والدينية.
وعلى سبيل المثال، إن دراسة أنواع وكميات الأدوات الحجرية المصنوعة من حجر الأوبسيديان التي عثر عليها في مواقع حضارة المايا بأمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية في المكسيك وغواتيمالا والسلفادور وبعدها الجغرافي عن موطنها الأصلي عند الجبال البركانية، يعد دليلاً على مدى تقبل أفراد مجتمع حضارة المايا لهذه الأنواع من الحجر، بحيث تشير النتائج الأثرية إلى ارتكاز كميات أدوات حجر الأوبسيديان في مناطق المايا الثانوية بدلاً من المراكز المدنية الكبرى والمناطق الدينية التي دائما ما يفضل أهلها ونخبها استخدام الأدوات المصنوعة من حجر اليشم الأخضر، في حين ربما يشير وجود أداة حجرية مصنوعة من الأوبسيديان في منطقة الصبية بشمالي الكويت منذ 7000 سنة إلى مفهوم نظام التبادل الثقافي حول استحسان جماعات شمال الخليج لأدوات من حجر الأوبسيديان، حيث أشارت النتائج المختبرية الكيميائية لمصدر الحجر البركاني من جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، أو الكمية الهائلة للتماثيل والدمى الطينية المكتشفة في موقع بجزيرة فيلكا في الكويت يعود تاريخها إلى نحو عام 280 قبل الميلاد، إلى دور الجزيرة كمركز إنتاجي لصناعة آلهة الحضارة الهلنستية المنتشرة على سواحل الخليج العربي، إضافة إلى أهميتها الدينية حيث يقع ذلك الموقع بالقرب من القلعة الهلنستية في الجزيرة.
وقدمت الأدلة النصية الأثرية دليلاً على انضمام كيانات وثقافات الخليج العربي إلى نظام التبادل التجاري ونقل المنتوجات والمواد الأولية، والتي أدت دوراً مهما في تعزيز مفهوم الإنتاج الكبير الذي كان تحت رعاية حضارات بلاد الرافدين في العصر البرونزي، فأصبحت ما يمكن اعتباره أول عولمة في تاريخ البشرية!
بعد اختراع الكتابة منذ نحو 3100 قبل الميلاد في منطقة بلاد الرافدين ووادي النيل، قدمت النصوص الموجودة في الرقم الطينية في جنوبي العراق، على سبيل المثال، دليلاً على استقبال الملك سرجون الأكدي (2370 قبل الميلاد) وابنه نارام سن لبضائع من مناطق دلمون وملوخا وماجان، وتسلم شحنات من البصل والأرز والنحاس وحجر اللازورد، بل ومن قبلهما مع حاكم مدينة لجش السومرية الملك أور- نانشه (2550 قبل الميلاد) الذي ذكر في نصوصه التجارة البحرية والسفن الدلمونية والضرائب المطلوبة للسفن القادمة، وفي نصوص متأخرة من الفترة البابلية (1700 قبل الميلاد) والفترة الآشورية والبابلية المتأخرة (1420 قبل الميلاد).
عولمة مبكرة
لكن هل بدأت العولمة فعليا منذ العصر البرونزي قبل نحو 5000 سنة؟ وهل بدأ فعلاً ارتباط الطبقة الحرفية بالسلطة مع ظهور الأسر الحاكمة في الحضارات الكبرى التي كانت تتطلع إلى صناعة منتجات فاخرة خاصة للطبقة السياسية الحاكمة والمعبد والطبقة الدينية أو الطبقة النخبوية؟ وهل المحفز الأول لهذه الصناعة والتبادل التجاري كان بسبب رعاية سياسية مركزية رسمية أم بدافع تجاري مجتمعي بحت؟ وهل كان الإنتاج مرتبطا بجماعات أم أقليات ثقافية ضمن الحضارة والمجتمع أم طبقة عمالية تخصصية أم صناعة عائلية غير متخصصة؟
في إطار البحث عن جذور العولمة في التاريخ البشري القديم وبداية الانفتاح الاقتصادي وانطلاق المجتمعات البشرية بثقافة استيراد المواد الأولية وتصدير السلع وارتباط الطبقات العمالية بالسلطة، يجري حاليا فريق علمي متخصص بين متحف ومختبر الآثار والأنثروبولوجيا في كلية العلوم الاجتماعية بجامعة الكويت بالتعاون مع البعثة البولندية الأثرية ومتحف الكويت الوطني ومتخصصين من جامعات أمريكية وأوروبية دراسات للإجابة عن هذه التساؤلات المتعلقة بأسلوب الإنتاج القديم في العصر الحجري الحديث المتأخر أو النيوليثي المتأخر Late Neolithic، الذي امتد من 6500 – 4000 قبل الميلاد (فترة زمنية محددة لمناطق ساحل الخليج العربي كما استدلت عليها الاكتشافات الأثرية)، وهي فترة مهمة في التاريخ القديم استقر فيها الإنسان للمرة الأولى بعد سلكه ثقافة صيد الحيوانات وجمع النباتات في العصر الحجري القديم والعصر الحجري الوسيط منذ 2.5 مليون سنة إلى 12000 قبل الميلاد.
وشهد العصر الحجري الحديث تغيرا مناخيا، وبدأت المسطحات المائية تتقلص، كما انقرضت بعض الحيوانات الضخمة وأشهرها الماموث، فبدأ الإنسان يستقر في أكواخ وينظم نفسه معيشيا مكونا أول نظم القرى في تاريخ البشرية (في شمالي العراق وجنوبي تركيا وغربي إيران وفي بلاد الشام) واستعاض عن ثقافة صيد الحيوانات وجمع الطعام بثقافة الزراعة واستئناس الحيوانات. وفي أواخر ذلك العصر بدأت القرى تتشكل وتتحالف لتكون نظاما اجتماعيا سياسيا اقتصاديا جديدا هو نظام المدينة. ويعتبر موقع أريدو وتل العبيد في الناصرية بجنوبي العراق أولى مدن العالم. وفي عام 1922، أسهمت البعثات الأجنبية في الكشف عن أساسات أول المجمعات المنزلية والشوارع والمعابد والفخاريات الملونة التي عرفت بفترة ثقافة العبيد (نسبة الى تل العُبَيْد في جنوبي العراق).
وكشفت تنقيبات البعثة البريطانية في شمال جون الكويت بمنطقة الصبيّة عن موقع يعود إلى ثقافة العبيد. وفي الألفية الجديدة كشفت البعثة البولندية عن موقع ضخم في منطقة بحرة ببر الصبيّة يعود إلى فترة ثقافة العبيد، ويؤرخ الموقع إلى 5200 قبل الميلاد (أي قبل 7200 سنة ويسبق فترة حضارات العصر البرونزي بنحو 3000 سنة)، وهو أقدم موقع استيطان بشري تم التنقيب عنه في الكويت وأكبر موقع لفترة العبيد في الخليج العربي. وأظهرت المكتشفات الأثرية من مواقع ثقافة العبيد في الصبية وجود أقدم دليل على ركوب البحر في العالم، حيث تم العثور على تمثال أو نموذج سفينة صغيرة وقرص فخاري رسم عليه مركب بحري ذو شراع، والآلاف من الفخاريات العبيدية وأخرى غير عبيدية (عرفت بفخاريات الخليج المحلية)، ومئات من الخرز وأدوات الحلي المصنوعة من الأصداف، وعظام أسماك، ورؤوس ومكاشط حجرية، وعناصر معمارية لأساسات منازل سكنية، ومؤخرا تم اكتشاف ضريح أو مبنى ذي غرض ديني يرجح أنه الأقدم في شبه الجزيرة العربية.
تطور منطقة الصبية
كل هذه المكتشفات الأثرية ولدّت لدى علماء الأنثروبولوجيا الأثرية إشارات إلى وجود تطور اجتماعي وثقافي في منطقة الصبية قبل 7000 سنة، وهي فترة شهدت ظهور المركزية السياسية في منطقة تل العبيد بجنوبي العراق من خلال دراسة التوزيع المكاني للمنازل والمعابد ومساكن النخبة إضافة إلى وجود صناعة فخاريات متطورة. قادت ظاهرة وجود فخاريات محلية ذات لون أحمر في فترة ثقافة العبيد (منتشرة فقط في مناطق ساحل الخليج العربي دون بلاد الرافدين) إلى تساؤل مهم مفاده وجود طبقة حرفية من صنـّاع الفخار في منطقة الخليج غير مرتبطة بالمركزية الاقتصادية في وادي الرافدين، وهي فرضية تقود إلى وجود تجمعات بشرية مستقلة عن الثقافة الأم مارست التبادل التجاري والثقافي، وأيضا عن تساؤل عما إذا كان الفخار ذو اللون الأخضر العبيدي الموجود في موقع الصبية بالكويت والدوسرية في السعودية منشأه فعلا من تل العبيد أم أنه صناعة محلية مقلدة ومحاكاة لفخاريات ثقافة المنشأ والأم في تل العبيد، وذلك من مبدأ التميز الاجتماعي والطبقي؟
أدت هذه التساؤلات العلمية إلى استخدام جهاز متطور هو جهاز الأشعة السينية المتنقل غير المدمر portable non-destructive portable X-ray fluorescence القادر على استخلاص معلومات عن مصدر المادة الأولية المستخدمة في صناعة أي قطعة أثرية، ومعرفة العنصر الكيميائي دون تدمير القطعة الأثرية، أو حتى ترك أثر على القطعة وذلك خلال
40-120 ثانية.
ويقود هذا الجهاز المتطور أيضا إلى إجابة علمية ثابتة وقاطعة حول الأسس الفيزيائية والكيميائية للقطعة الأثرية وكيفية صناعتها، بحيث يمكن ربط تلك النتائج بمستوى المركزية السياسية والاقتصادية للمجتمع إذا ما تم استخدام نفس المواد الأولية ونفس مستوى الحرارة في حرق الفخار العبيدي والتماثل والمركزية في الصناعة مقابل مواد أولية مختلفة لصناعة الفخار ذات لون أحمر، وهو ما يشير إلى طبقة حرفية مختلفة انتشرت فقط في منطقة الخليج مستقلة ثقافيا واقتصاديا عن الثقافة المركزية.
ولدت هذه النتائج أيضا فضولا لدى العلماء لاستخدام أجهزة مختبرية أخرى للكشف عن تفاصيل دقيقة حول شكل المادة الأولية المستخدمة وكيفية إعدادها وطحنها وخلطها بمواد أخرى وإضافة الماء ودرجة حرارة الفرن ونوع الأفران المستخدمة، من خلال استخدام أجهزة المايكروسكوب على عمق 20-80 مايكرون! ويمكن من خلال تبني منهج البحث الآثاري العلمي معرفة تفاصيل أكثر عن المشهد البشري خلف القطعة الأثرية التي عثر عليها في الصحاري أو تحت المنازل عند حفر أعمال الإنشاءات!
ونحن اليوم في سباق مع ما تقدمه التكنولوجيا في الحقول العلمية من أجهزة وبرمجيات وفلاتر ومعايير لحقل الآثار، للتوصل إلى إجابات حول تفاصيل التنوع الحرفي ومستويات الصناعات المتخصصة وعلاقاتها بالطبقية الاجتماعية والسياسية، وتساؤلات أخرى حول صحة الإنسان القديم، ومصادر غذائه، وأماكن المسطحات المائية التي تفاعل معها، وطريقة تأثره وتأثيره بالثقافات والحضارات الأخرى، ودرجة استغلاله لموارد الطبيعة من أجل بقائه، والكشف عن عوالم الرموز والمقدسات التي تؤطر حدود معتقداته. وأيضا عن الكيفية التي تسهم بها هذه التكنولوجيا في إعادة المباني التاريخية في مدينة الكويت التي يعود بعضها إلى فترة نشأة الكويت قبل أكثر من قرنين. كما أننا في سباق مع ما يقدمه باطن الأرض وسطحها من شواهد أثرية مع وجود تلك الأجهزة والمختبرات لنقدم أفضل فهم وأشمل صورة لثقافة الإنسان القديم.