الأنثروبولوجيا والأوبئة عبر التاريخ

الدروس المستفادة والتنبؤ بالعواقب المستقبلية

د. يعقوب يوسف الكندري
أستاذ الأنثروبولوجيا والاجتماع، كلية العلوم الاجتماعية،
جامعة الكويت

لا يعتبر تناول موضوع الوباء بالدراسة والبحث الأنثروبولوجي وانتشاره في المجتمعات الإنسانية والتغيرات التي طرأت على هذه المجتمعات حديثا، إذ تم تناوله في عديد من الأدبيات عند الرواد الأوائل للأنثروبولوجيا وقبل تسميته هذا العلم بهذا الاسم. فها هو ابن خلدون في مقدمته الشهيرة في القرن الرابع عشر ميلادي يعطي تشخيصا واضحا لانتشار الأوبئة وأسبابها عندما أشار إلى أن سبب الوباء هو “فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرطوبات الفاسدة، وإذا فسد الهواء وهو غذاء الروح الحيواني وملابسه دائما فسيسري الفساد إلى مزاجه، فإن كان الفساد قويا وقع المرض في الرئة وهذه هي الطواعين وأمراضها مخصوصة بالرئة، وإن كان الفساد دون القوي والكثير فيكثر العفن ويتضاعف، فتكثر الحميات في الأمزجة وتمرض الأبدان وتهلك، فسبب كثرة العفن والرطوبات الفاسدة في هذا كله كثرة العمران”. فربط ابن خلدون الوباء بالعمران وما يتعلق به، باعتبارها أمورا تساعد على انتشاره في المجتمع.
ولم تخل أيضا إشارات من سبقهم من علماء المسلمين في تقديم وصف إثنوغرافي للأمراض والأوبئة. فها هو ابن فضلان قبله أيضا- على سبيل المثال وليس الحصر- في القرن التاسع الميلادي في كتابه “رسائل ابن فضلان” يقدم وصفا دقيقا للأمصار الروسية عند انتشار المرض والوباء فيها وما يتم من تعامل مع المرضى عند إشارته إلى أن أنه “إذا مرض أحدهم حملوه وحده في خيمة بعيدة، ووضعوا معه طعاما وشرابا حتى يبرأ أو يقتله المرض فيحرقون جثمانه”. فقد قدم ابن فضلان وصفا إثنوغرافيا عن حال هذه الأمصار في التعامل مع المرض والمرضى.

الأوبئة والمنطلقات الثقافية
عند انطلاق الأنثروبولوجيا كعلم مستقل بحد ذاته، فإنها ركزت على الأمراض والأوبئة كأحد المنطلقات الثقافية التي بدأت مع المؤسس إدوارد تايلور عندما ربط المعتقدات الدينية كنتيجة لفهم الظواهر ومنها الأمراض في كتابه “الثقافة البدائية”. ثم ازدهرت الدراسات الأنثروبولوجية التي أسهمت في توجيهها نحو الأمور الصحية ودراسة مشكلاتها. فجاء الربط بين الممارسات الثقافية في التعامل مع الأمراض، وانطلق ذلك بداية من دراسات إيفانز بريتشارد Evans- Pritchard، وريفرز Rivers على سبيل المثال. فبدأت الأنثروبولوجيا تدرس المرض وطرق الوقاية والعلاج منه، وكيفية إسهام الثقافة في تحديد الأمراض وانتشارها، والحد منها، إضافة إلى العمل على تعزيز البعد الثقافي لاستجابة الفرد وترسيخ قناعته بالطب الحديث وجدواه وتفاعله مع الأساليب الطبية الحديثة، والكيفية التي يمكن بها تحقيق استجابة مناسبة للتعامل مع المرض، مع النظر في الاختلافات الثقافية في التعامل مع المرض والاستجابة للأعراض الصحية المختلفة.
وفي الوقت المعاصر، انطلقت الأنثروبولوجيا أيضا لتتعامل مع المرض والعلاج ضمن إطار الدراسات الأنثروبولوجية الطبية، فناقشت وعالجت الجوانب الثقافية المرتبطة بالمرض والصحة على مستوى التراث الشعبي، وركزت في العقود القليلة الماضية على الأمراض المعاصرة بكل أشكالها، وتداخل المفاهيم الاجتماعية الثقافية المؤثرة فيها عبر أيضا علم “بيني” معاصر Interdisciplinary Science دمج فروعا علمية مختلفة تحت مسمى بيولوجيا الجماعات السكانية. وانتقلت من باب التنظير، ومن المجال الوصفي الإثنوغرافي إلى المجال التطبيقي، ودخلت هذا المجال المعاصر من أوسع أبوابه.
وشكلت الأنثروبولوجيا رابطا مميزا مع الدراسات الأبديومولوجية الوبائية تحديدا في تناغم علمي ثقافي صحي، ارتبط أيضا بتداخل مع فروع علمية أخرى مثل علم البيولوجيا، والوراثة، والفسيولوجيا، وعلم الأغذية، والأمراض. فها هي الأنثروبولوجيا بالتداخل مع هذه العلوم تبدأ بدراسة أمراض القلب والشرايين، وضغط الدم، والسكري، والسرطان كأبرز الأمراض العصرية المزمنة، كما بدأت بالدخول في الأمراض الوبائية وتقديم خدمات الرعاية الصحية في مجتمعات لا تعرف التعامل مع المرض بطريقة علمية حديثة إلا من خلال دراسة الثقافة الإنسانية فيها وتقديم خدماتها في فهم الثقافات. كما أسهمت بدور بارز، على سبيل المثال لا الحصر، في التعامل العلمي مع من رفضوا تناول الدواء والعقاقير واللقاحات في بعض المجتمعات الإنسانية، بحكم أن هذه العقاقير من المنتجات الدخيلة على الثقافة وما يمكن أن يسببه أي عقار من تأثير سلبي على صحتهم كما يعتقدون.
وتعامل الأنثروبولوجيون مع الأوبئة باعتبارها أحد الأمور المهمة في المجال الصحي. فانطلق التحليل الأنثروبولوجي في النظر إلى موضوع الصحة والأمراض، وكذلك النظر في المجتمع والتأمل في مستوى العلاقات الاجتماعية التي جاءت نتيجة لهذه الأمراض وكيفية التعامل معها من منطلقات ثقافية مختلفة. لقد خلفت الأمراض تغييرات ثقافية في التعامل مع المرض نفسه من جهة والتعامل مع الآخر من جهة أخرى، أي إنها أثرت على مستوى العلاقات الاجتماعية. ويبقى السؤال المهم: كيف يمكن التعامل مع القضايا التي خلفها الوباء؟
فقد عرفت المجتمعات الإنسانية أوبئة كثيرة، مثل الأنفلونزا الأسبانية، والطاعون الدبلي، وطاعون مرسيليا، ووباء الحمى الصفراء، ووباء منشوريا، قضت على ملايين البشر. وقد يكون أكثرها شهرة في العقود الأخيرة وباء الإيدز الذي تسبب في وفاة نحو 25 مليون شخص. وهناك أيضا وباء سارس الحديث وإيبولا وغيرهما من الأوبئة التي أثرت على الحياة الاجتماعية ومستوى العلاقات الاجتماعية. وأثرت هذه الأوبئة على الحياة الاجتماعية من منطلقات عدة، وهكذا فعلت جائحة كورونا.

حركة الهجرة والتنقل
لعل من أبرز ما أثرت فيه هذه الأوبئة التحركات السكانية ومستواها. فقد عطلت جائحة كورونا جميع أشكال التنقل البشري بسبب وقف السفر وإغلاق الحدود، والصعوبة في عملية الانتقال في ضوء حركة عالمية قبل الجائحة لم تشهدها البشرية من قبل من حيث السهولة. وذكرت دراسات علمية أن عملية الهجرة والتنقل حول العالم انخفضت بنحو 27% في منتصف 2020 وقبل انتهاء الأزمة، ولاشك في أن النسبة ازدادت كثيرة في الأشهر اللاحقة. وانعكس ذلك ثقافيا على أفراد المجتمع الإنساني سواء اقتصاديا أو اجتماعيا، وهو ما يدعو إلى دراسة هذه القضايا وتأثيرها من منطلق اجتماعي ثقافي.
وأثرت الجائحة في قضايا أخرى مثل العزلة وما خلفته من تأثير اجتماعي ونفسي على الوضع المجتمعي، وما أحدثته من أعراض اجتماعية ونفسية ولاسيما ارتفاع معدلات القلق والاكتئاب والانتحار والخوف من المستقبل. وعلى سبيل المثال، تجاوز عدد الوفيات من حالات الانتحار في المجتمع الياباني خلال جائحة كورونا عدد الحالات التي توفيت بسبب الجائحة. إضافة إلى ذلك، فقد ارتبطت الجائحة أيضا بمعدلات بطالة عالية أثرت بشكل كبير في هذا الجانب وبدرجات متفاوتة بين المجتمعات الإنسانية. فارتبط فقدان العمل نتيجة للإغلاق بالوضع الاجتماعي العام، حتى إن بعض الأشخاص رأوا أن تأثير الإغلاق أكبر من المرض نفسه.
وربما يكون من أكثر ما تأثرت به الجائحة وتركت من خلاله آثارا ثقافية هو التعليم والانتقال إلى التعليم الإلكتروني وتعزيز التعليم عن بعد بعدما كان هذا النوع من التعليم محل شك في كفاءته. فقد جاءت الجائحة لتخلق توجها ثقافيا عند المجتمعات والأفراد في التعامل مع التعليم بطريقة مختلفة، وإن نجح من نجح في هذه التجربة في بعض المجتمعات ومن أخفق أو لم يتعامل معها بطريقة مناسبة. ولكن كل ما يمكن التأكيد عليه هنا هو عملية التفاعل التي نشأت بشكل فاعل بين التكنولوجيا والاستخدام الإنساني، في مرحلة جديدة تضاف إلى المعرفة الإنسانية في هذا التعامل لكن بشكل أكثر تقدما وتطورا.

تحديات المستقبل
تبقى هناك التحديات والدروس المستفادة التي يواجهها المجتمع المعاصر، والكيفية التي يمكن وفقها أن يتعامل مع تداعيات الجائحة وآثارها. ثمة تساؤلات تحتاج إلى إجابة مناسبة وتوقع لأحداثها، ربما يكون أهمها في الوقت الراهن هو كيفية التعامل مع الأعراض الجديدة فيما لو ظهرت، ونشر ثقافة الدواء والتطبيب في الثقافات المختلفة. ففي ضوء تسابق المجتمع الغربي بثقافته للتطعيم ضد هذا الفيروس، وتأكيد أهميته للانتهاء من هذه الجائحة، نجد أن هناك من يشكك في هذه العملية في ثقافات أخرى من خلال رصد وتبني تعليقات وتحليلات مناهضي التطعيم في العالم والدفاع عنها. ويظل هنا السؤال مطروحا: ما الدرجة التي يؤثر بها هؤلاء في الثقافات الإنسانية وبالتحديد المحلية منها؟
ولعل من أبرز التحديات المستقبلية أيضا هو الكيفية التي سيكون المجتمع العالمي وفقها مستعدا لمواجهة أي وباء جديد ربما يكون أشد فتكا وأكثر انتشارا، وما إذا كان التفكير وآليات التعامل مع هذا الوباء مشابهة للتعامل مع هذه الجائحة، ولاسيما فيما يتعلق بالكشف عن لقاحات أو علاجات جديدة ربما لا يسمح الوقت لاكتشافها سريعا كما حدث مع فيروس كورونا، وإلى أي مدى ستكون التقنيات العلمية في صناعة الأدوية واللقاحات قادرة على مواجهة مثل هذه الجوائح المستقبلية فيما لو ظهرت، وكيف يتم التفاعل الاجتماعي والثقافي معها؟
إن هذا الوباء لم يكن الأول، ومن المؤكد أنه لن يكون الأخير، وقد يكون ما هو قادم أخطر، وأكثر شراسة. فهل سيخرج موضوع اللقاحات والأدوية عن إطاره التقليدي والمعتمد؟ وإلى أي مدى يمكن أن تتغير المجتمعات الإنسانية فيما يتعلق بثقافة الدواء والتطبيب والتعامل معها. من جانب آخر، كيف يمكن أن يكون انعكاس هذه الجائحة على قضايا اجتماعية أخرى بعد انتهائها. ففي المجال السياسي على سبيل المثال، ما العلاقة السياسية التي ربما تنشأ بين القطبين الأمريكي والصيني في مجال العلاقات السياسية الدولية؟ وفي الجانب الاقتصادي، ما العلاقات الاقتصادية التي قد تنشأ بعد الجائحة وفرص العمل المتاحة، وتأثير السوق العالمية في تذبذب مستويات التعامل مع العامل الاقتصادي الأول المنشط في العالم والمتمثل في النفط؟ ومن الجانب التقني، ما الذي يمكن أن تؤديه التقنيات التكنولوجية التواصلية والمعلوماتية في عصر ما بعد الجائحة بعد أن حققت نجاحات كبيرة في التفاعل الاجتماعي على المستويات المختلفة وأهمها التعليمي، وما الذي يمكن أن يكون عليه مستقبل التعليم والتعامل مع أداوته؟ وكيف يمكن التغلب على المشكلات الاجتماعية والنفسية التي خلفتها الجائحة سواء على المدى القريب أو البعيد؟
على العالم أن يستعد جيدا في توقع تأثيرات قادمة تحتاج بكل تأكيد إلى مواجهة جادة. وهي التي تقودنا في النهاية إلى الحقيقة الرئيسية التي تتمثل في التأثير المتبادل للعوامل الثقافية الاجتماعية مع الأعراض والجوانب الصحية، وفي أننا لا يمكن أن ندرس الأعراض الصحية والمرضية بمعزل عن فهم المحددات الاجتماعية الثقافية، وأيضا لا يمكن فهم سلوكات التعامل مع المرض وانتشاره وإمكانية الحد منه، أو حتى التوقع بآثاره، إلا من خلال فهم البعد الثقافي الذي تقوده الأنثروبولوجيا.

Exit mobile version