حازم محمود فرج
طوال أزمنة وعصور دأب فيها البشر على التحديق في السماوات، كان هناك سؤال يطوف في أذهانهم: كيف لنا أن نعرف أن ما يحيط بنا إنما هو الوجود كله، ولا وجود آخر سواه؟ وقد ترسخت صورة الكون كما نعرفها حالياً نتيجة دراسات وأرصاد علمية تواصلت طوال عقود، امتدت من أواخر القرن التاسع عشر، لتتوَّج في أواسط القرن العشرين تقريباً بنظرية الانفجار الأعظم (Big Bang).
وبتنا نعرف الآن أن الكون يبلغ من العمر نحو 13.7 مليار سنة، ومن الاتساع نحو 150 مليار تريليون ميل، لكن العقود القليلة الأخيرة شهدت تساؤلات لعلماء الكون يتناولون فيها احتمالية مثيرة، بل مذهلة، مفادها بأن الكون الذي نراه ونحيا فيه، ربما يكون واحداً فقط من أكوان أخرى تشكل بمجملها كوناً كلياً متعدداً أكبر.
وتأتي أدلة هذه الفكرة من اتجاهات عدة: مثل فكرة التضخم الكوني، ونظرية الأوتار، والثابت الكوني الشهير. ومع أن بعض الأفكار الناتجة عن مجموعة الأدلة هذه يبدو معاكساً للبديهة إلى حد ما، فإنَّ هذا لا يقلق العلماء، كما يقول أحد أبرز الباحثين في فكرة الأكوان الموازية العالم ماكس تيغمارك: «أتوقع تماماً أن تكون الطبيعة الحقيقية للواقع غريبة جداً ومعاكسة لشعورنا بالبديهة، وهذا هو سبب اعتقادي بهذا الجنون».
ما دليل كل هذا؟
أولاً؛ تشير قياسات المستعرات الفائقة supernovae البعيدة إلى تسارع توسع الكون. وثانياً؛ تزداد الأدلة الداعمة لحادثة التضخم الكوني. وثالثاً؛ توحي أفكار أخرى متعلقة بحادثة التضخم ذاتها باحتمال حدوث انفجارات عظيمة Big Bangs أخرى كثيرة أيضاً. ورابعاً؛ تشير أفكار وملاحظات حديثة عن نظرية الأوتار إلى احتمال تشكل أكوان أخرى من أنواع مختلفة جداً.
وفي كليتها؛ فإنَّ هذه الأفكار توحي لنا بإمكانية نشوء أكوان متعددة ومختلفة الأنواع في الماضي، وأنها ربما توجد بصورة موازية لكوننا الذي نعرف.
وحتى دون افتراض وجود تلك الأكوان الأخرى، يدرك العلماء الآن أن الكون إنما هو أكبر حجماً بكثير مما نراه بأكبر وأحدث مناظيرنا الفلكية. يبعد الأفق المرئي للكون حالياً نحو 14 مليار سنة ضوئية عنا، وإذا أدركنا حقيقة أن الأجسام البعيدة الواقعة على تخومه قد ارتحلت إلى مسافات أبعد كثيراً مما نراه حالياً، فسيكون بعد الأفق الموجود حالياً بقدر 40 مليار سنة ضوئية على الأقل.
وبقبول فكرة وجود كون تضخمي حجمه كالذي نرى، افترض العالمان جومي غاريغا والكساندر فيلينكن فكرة وجود كون ممتلىء بمناطق أطلقا عليها اسم المناطق O (O-regions)، والتي تعني أكواناً مرئية مثل كوننا.
وتقول الفكرة في أحد جوانبها إن حادثة التضخم الكوني – التي مثلت عملية توسع فائق وسريع جداً في زمن سحيق من تاريخ الكون – لم تنته تماماً بعد. وقد توقفت في طرفنا نحن، حيث أنتجت المنطقة O الخاصة بنا، أي كوننا المرصود، ومعه أكوان عديدة أخرى. لكن الحادثة ما زالت متواصلة في أنحاء أخرى وراء كوننا، ضمن الفضاء الكلي الأكبر.
وتأخذنا هذه الفكرة إلى مفهوم يسميه العلماء باسم التضخم الأزلي eternal inflation، لتنتج بذلك صورة كون ليس على مثال بالون أو كرة بسيطة، بل على صورة كون فائق، أشبه بقطعة إسفنجية هائلة تملأها فجوات، هي فقاعات كونية.
إقناع العلماء
لكن.. كيف يمكن لهذا الطرح أن يقنع العلماء؟
يقول تيغمارك: «بوصفنا علماء، نحن لا نستطيع الآن اختبار الفكرة العامة للأكوان الموازية، لكننا نجري اختبارات لنظرية التضخم، التي هي نظرية في علم الرياضيات تتنبأ بوجود أكوان موازية، أو متعددة، وجميع الأشكال الأخرى للمادة».
أما فيلينكن فيتطلع إلى مستقبل قريب سنعرف فيه مزيداً عن الأكوان الموازية، ويقول: «بإجراء الأرصاد والقياسات في منطقتنا الكونية، نستطيع اختبار تنبؤاتنا لما يوجد وراءها».
أنواع الأكوان الموازية
على الرغم من إسهاب العلماء في الحديث عن الأكوان الموازية، فإنه ليس من الواضح ماذا يعنون بها تماماً، فهل تراهم يعنون تواريخ بديلة لخط تاريخ كوننا – كما يفعل الخيال العلمي مثلاً – أم أنهم يشيرون إلى أكوان أخرى مختلفة تماماً، ولا يربطها بكوننا أي رابط حقيقي؟
إن علماء الفيزياء الفلكية يستخدمون مصطلح (الأكوان الموازية) لعرض مفاهيم متنوعة، يمكن أن تقودنا أحياناً إلى بعض اللبس. إذ يعتقد بعض الفيزيائيين بقوة بفكرة الكون المتعدد لأسباب كوزمولوجية (كونية) فقط.
ومن المهم أن ندرك هنا أن الأكوان الموازية ليست في حقيقة الأمر نظرية فيزيائية، بل هي نتيجة خلصت إليها نظريات كونية وفيزيائية كثيرة مثلت باقة متنوعة من الأسباب تدعو الآن للاعتقاد بوجود أكوان متعددة كواقع فيزيائي حقيقي؛ وهي أسباب يستند معظمها إلى حقيقة عدم وجود سبب مطلق يدعونا لافتراض كوننا المرصود لأن يكون هو الوجود كله، ولا وجود آخر غيره.
ومن المفيد هنا أن نذكر أن العلماء قدموا أنواعاً للأكوان الموازية ضمن تصنيفين؛ أولهما هو ما قدمه العالم ماكس تيغمارك في عام 2003؛ والثاني قدمه العالم برايان غرين في كتابه الحقيقة الخفية The Hidden Reality.
تصنيف تيغمارك
في عام 2003 سبر العالم تيغمارك فكرة الأكوان الموازية بصورة يمكن تأطيرها بأنواع أربعة، سماها مستويات، وقدمها كما يأتي:
– الأكوان الموازية من المستوى الأول: وهي، باختصار، تلك المناطق التي توجد وراء أفق كوننا. نعلم، في واقع الأمر، أن الكون كبير بلا حدود، وأنه يحوي مادة لها تقريباً الانتشار ذاته في أنحائه كلها. ويمكن لهذه المادة أن تجتمع ويرتبط بعضها ببعض بعدد محدود فقط من الترتيبات المختلفة التي يمكن أن تتخذها على الرغم من ضخامة هذا العدد. وبالنظر إلى الحجم اللامتناهي للفضاء، يبدو معقولاً لذلك أنه لابد أن توجد منطقة أخرى منه يوجد فيها نسخة أخرى، مطابقة، من عالمنا الأرضي، وبالأحرى، نسخة مطابقة أخرى من كوننا المرصود كله.
– أكوان المستوى الثاني: وهي أكوان متمايزة تأخذ صورة فقاعات من الزمكان تبقت بعد حادثة التضخم الكوني، وتخضع لآليتها الخاصة من التوسع وفق قوانين نظرية التضخم. يمكن لقوانين الفيزياء في هذه الأكوان أن تختلف كثيراً عن قوانين كوننا.
– أكوان المستوى الثالث الكمومية: وفقاً لهذا النوع، يمكن للأحداث الجارية أن تأخذ كل وأي صورة معينة ممكنة، ولكن فقط في أكوان مختلفة. ونرى أن قصص (التاريخ البديل) في الخيال العلمي تستخدم هذا المثال من الأكوان الموازية الشهير خارج حقول الفيزياء.
– أكوان المستوى الرابع التي تمثلها بنى رياضياتية أخرى. ويمثل هذا المستوى شكلاً جامعاً لبنى رياضياتية مختلفة يمكن أن نتخيلها، لكن دون أن نتمكن من رصدها كواقع فيزيائي ملموس في كوننا. تخضع أكوان هذا المستوى لقوانين ومعادلات مختلفة تماماً عما يخضع له كوننا، وليس مجرد صور مختلفة للقوانين الأساسية ذاتها كما في أكوان المستوى الثاني.
تصنيف غرين
في كتابه الشهير الحقيقة الخفية، قدم العالم برايان غرين تصنيفاً للأكوان الموازية أكثر عدداً من تصنيف تيغمارك، ليصل بها إلى تسعة أنواع:
– الكون الموازي النسخي: يقدم هذا النموذج صورة فضاء غير منته، فيه مناطق تحاكي تماماً منطقتنا نحن من الكون. لابد أن يوجد «هناك» في مكان ما منه، كوكب ما، تدور أحداثه تماماً كما هنا على الأرض.
– الكون الموازي التضخمي: تتنبأ نظرية التضخم الكوني بكون توسعي تملؤه «فقاعات كونية»؛ كوننا هو مجرد فقاعة واحدة منها.
– الكون الموازي الغشائي: تتنبأ نظرية الأوتار باحتمالٍ يكون فيه كوننا نحن مجرد غشاء ثلاثي البعد
3-dimensional brane ، فيما يمكن لأغشية أخرى ذات أبعاد أخرى مختلفة الأعداد أن تحوي أكواناً كاملة أخرى عليها.
– الكون الموازي الدوري: يقدم أحد السيناريوهات المحتملة لنظرية الأوتار احتمال تصادم بعض الأغشية ببعض، لينتج هذا انفجارات عظيمة لم تفض إلى إيجاد كوننا فقط، بل أكوان كثيرة أخرى غيره.
– الكون المتعدد التصوري: تفتح نظرية الأوتار المجال لكثير من الخصائص الأساسية المختلفة للكون، التي يعني جمعها مع صفات الكون التضخمي المتعدد إمكانية وجود فقاعات كونية كثيرة هناك تحظى بقوانين فيزيائية مختلفة جذرياً عن قوانين وصفات كوننا.
– الكون الموازي الكمومي: هو جوهر تفسير فيزياء الكم لفكرة العوالم الكثيرة؛ حيث يحدث كل ما يمكن حدوثه في كون ما منه.
– الكون الموازي الهولوغرافي: بحسب المبدأ الهولوغرافي holographic principle، ثمة كون مواز مكافئ فيزيائياً، يوجد على سطح منطقة حدودية بعيدة (حافة الكون)، وفيه نسخة مرآتية مطابقة لكل شيء في كوننا.
– الكون الموازي التقليدي: من المحتمل أن تواصل التقانة البشرية تطورها لتبلغ نقطة يمكن معها للحواسيب أن تقوم بتقليد ومحاكاة كل شاردة وواردة في الكون. ولذلك فهي ستوجد كوناً متعدداً تقليدياً simulated multiverse، يكون واقعه بدرجة تعقيد كوننا.
– وأخيراً هناك الكون الموازي المطلق: وهو أغرب أنواع الأكوان الموازية، الذي سيتحتم فيه على كل نظرية ممكنة الوجود أن توجد، بصورة ما، في مكان ما منه.
هكذا نرى أن فكرة الأكوان الموازية لم تعد شيئاً من دنيا الخيال العلمي، أو شطحات عقول جامحة، بل أخذت تكتسب أطراً ناظمة لمفاهيمها وأبعادها ومضامينها، بما قد يؤسس لترسيخها كنظرية متميزة ومتكاملة بذاتها، وتنتظر أدلتها الرصدية القاطعة، لا أن تكون مجرد نتيجة لنظريات أخرى. >