د. جمال الدين أبو رجيلة
مع تلاحم ميادين التقانات المختلفة والتعامل مع البيانات الضخمة وأحدث تقانات الاتصالات والذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، غدت الروبوتات في واجهة مظاهر هذا التلاحم من حيث دخول هذه التقانات مجتمعة في تصميم وتصنيع الروبوتات، أو من حيث استخدام الروبوتات لإنجاز وتحقيق أفضل الخدمات المتوقعة من الثورة الصناعية الرابعة. ويمكن القول إن تقانة وأهداف تصنيع الروبوتات شهدت تحولات جوهرية كبيرة في الآونة الأخيرة.
لطالما ارتكز تحقيق قفزات نوعية في مجال الجراحة على التفكير الإبداعي والسريان المنظم للأفكار والعمل العقلي الدؤوب، ولطالما كانت تلك القفزات نتاج تفكير مبدع لفريق من العاملين وجهد ذهني لا يكل من النظر إلى العلوم الأخرى والاستفادة منها. وتبدأ إحدى القصص المثيرة في المجال الطبي للاستفادة من التطورات العلمية من حاجة الأطباء لأخذ عينة من مخ أحد المرضى من دون حدوث ارتعاش أو اضطراب. وكانت الفكرة الملهمة دمج إبرة الخزع مع جهاز الأشعة المقطعية، وأيضاً مع روبوت يمكنه أخذ العينة من دون ارتعاش على أن يتم التحكم فيه من غرفة الحاسوب. لقد نجحت الفكرة وقفزت معها الإنسانية قفزة لم تتخيلها قط، ولم تقترب يوما من خيالها. لقد كانت قفزة الحياة، كتلك التي قفز بها واطسون وكريك بالبشرية يوم اكتشافهما لتركيب الحمض النووي (الدنا)، فتم دمج الروبوت مع منظار البطن لإجراء مختلف الجراحات، لكن بعد استبعاد الكثير من الصفات والأخطاء البشرية التي تؤثر في نتائج الجراحة، فأصبحت نتائجه أكثر دقةَ وثباتاَ.
تكامل الروبوت والتقنيات
لكن الخيال المبدع لا يقف عند مرحلة ثابتة، إذ توالت القفزات حتى أصبح بمقدور الأطباء والمهندسين إجراء مزيد من التكامل بين الروبوت وتقنيات التصوير الإشعاعي الحديثة، وكذلك دمجه مع تقنيات الجراحة عن بعد أو حتى في الفضاء لرجال الفضاء الذين يقبعون بمفردهم في عالم معزول عن الجراحين إذا ألمت بهم ملمة.
وامتدت جراحة الروبوت لتشمل معظم التخصصات الطبية، ومنها تخصص جراحة المسالك البولية الذي تمرد على واقع الجراحة التقليدية في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، حيث اتجه العقل البشري نحو منظومة الجراحة القليلة التداخل، أو ما يعرف حاليا بجراحة المناظير. وسار هذا الاتجاه بقوة معلناَ عن ثورةٍ هائلة في التقدم الجراحي بالمناظير، وكان ذلك القاطرة التي سحبت خلفها كثيراَ من الأقسام الجراحية الأخرى. وعلى مدار عقدين من الزمن تنامت هذه الثورة في مجالات المناظير حتى أصبح هناك منظارٌ للحالب وواحد للكلى وآخر للإحليل وغيرها. لكنها للأسف تلكأت في استخدام منظار البطن فسبقتها الأقسام الجراحية الأخرى حتى بدت وكأنها ضفتا كتابٍ مغلقٍ لأكثر من عشر سنوات. لقد كانت هناك أسباب عديدة لذلك؛ أهمها أن حوض الإنسان ضيق نسبياً ومعظم التركيبات صغيرة جداً، مما أدى إلى إعاقة استخدام منظار البطن لدى كثيرٍ من جراحي المسالك البولية.
تلامس بين الحاجة والاختراع
استُخدم الروبوت في تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية، فعادت الحاجة إلى دقته تصارع أذهان جراحي المسالك. وهنا بدأ التلامس الكهربائي الذي ينشأ بين الحاجة والاختراع؛ إذ بدأت اللمسة السحرية في استخدام الروبوت مع منظار البطن لمنابلة جراحات المسالك البولية.
إن هذه الصفقة الكبرى لعمر البشرية مما يزيد على ربع قرن لم تكن لتتم لولا التقدم المذهل لهندسة صناعة الروبوت، فلقد تواكب المهندسون يسمعون للأطباء ويدوِنون المشكلات ويسهرون الليالي للعمل على حلها حتى خرجوا بصناعة باهرة تعتمد على المفاصل الصناعية المتعددة للروبوت والمنابلة من بُعد، مع اختراع بدَال للقدم يساعد على التحريك، فأصبح جراحو المسالك البولية أمام لعبة «أتاري» سلسة الاستخدام تمكنهم من التعامل مع أصعب الأورام في الكلى وغيرها.
وقدم المهندسون المهرة للجراحين ولغيرهم نموذجاً يعتمد على الثبات ويتفادى الأخطاء البشرية. وكان النموذج الأول يبهر جميع جراحي المسالك إلا أن المنابلة عن بُعد لا يزال يشوبها بعض العيوب، منها حتمية وجود الجراح ملاصقا للمريض لاستخدام الرؤية البصرية من خلال منظار البطن، وكان هذا يؤدي إلى تداخل العمل والتعرض لنظام التحكم في الروبوت بطريقة سلبية، كما كانت الخيالات البصرية تعوق عملهم وتؤثر في النتائج الجراحية. فبدأ المهندسون عملا دؤوبا لحل تلك المعضلات فظهر للوجود نظام زيوس telemanipulator system ZEUS الذي أوجد محورين للعمل: الأول بجانب المريض وله ذراعان الأولى للكاميرا والثانية للمنابلة الجراحية، أما المحور الآخر فكان بعيداً عن المريض، وخصص للجراح ليجلس بعيداً في غرفة التحكم. لقد نجح المبدعون في تخطي العقبة الكئيبة التي كانت تعوق عملهم، وحدث تقدم مذهل في النتائج الجراحية وخاصة في جراحة القلب والصدر التي اعتمدت على هذا النظام في التعامل مع الشريان الثديي الباطني. وتم اعتماد هذا النموذج في عام 2001 من قِبل منظمة الأدوية والأغذية الأمريكية إلا أنه لم يلق قبولاً لدى الكثير من الجراحين في الأقسام الأخرى ولاسيما جراحو المسالك البولية.
نظام سقراط
وفي فبراير 2001 خرج ابتكار وتطوير مذهل للروبوت، وهو نظام سقراط The SOCRATES system الذي استكمل الحلقة الثورية للتعاون بين الجراحين في الجراحات الصعبة. ومن خلال هذا النظام صار بإمكان الجراحين العمل معا من بعد، وأصبح بإمكان جراح في منطقة بعيدة التحكم في ذراع الروبوت لاسيما مع إضافة خاصية التواصل السمعي اللحظي التي جعلت آفاق جراحات الروبوت تحلق في السماء وتتقدم تقدماً مذهلاً، وبخاصة أنها وضعت أبحاث وكالة ناسا الفضائية الخاصة بالجراحة عن بعد موضع التطبيق. وكان ذلك إضافة مهمة لجراحي القلب والصدر. لكن للمرة الثانية لم يجد قبولاً من جراحي المسالك البولية لصعوبة تعامله مع أمراض الكلى.
ومرت أعوام على نظام زيوس، وتراكمت هموم الجراحين من أجل تطوير الروبوت ليحل محل الجراحين، وتزايدت العقبات؛ وذلك لاعتماد الروبوت على ذراع واحدة للمنابلة الجراحية والأخرى للكاميرا، فكان إجراء الجراحة – على الرغم من دقتها – يستغرق وقتاً طويلا ويواجه صعوبة بالغة في التعامل مع الجراحات المعقدة، لاسيما أن للكلى شرايين كثيرة، وأن لأورام الكلى أيضا الكثير من الشرايين الطفيلية التي تتطلب بطئاً أكبر في العمل للحفاظ على حياة المريض، وكان ذلك حال معظم أقسام الجراحة الأخرى. وكما كان العمل يسير بصعوبةٍ بالغةٍ ووقتٍ كبيرٍ ولكن بدقةٍ عالية، كان المهندسون يقضون لياليهم في أرقٍ من أجل حل تلك المعضلات لاسيما مع ظهور نظام سقراط إلى الوجود، وبدوا وكأنهم يسابقون الزمن حتى ظهر للوجود نظام دافنشي الذي سمح للجراح بسبع درجات من الحرية المضافة على مفاصل الروبوت لتحاكي – بأسلوب أكثر دقة – يد الجراح البشرية، مع تطوير نظام الكاميرات بطريقة تسمح لعين الجراح بالاقتراب من الحقل الجراحي بطريقة أفضل من العين المجردة. وهكذا أصبحت مهمة الجراح إجراء الجراحة لكن في غرفة بعيدة ويحاكيه الروبوت الذي يجري الجراحة الحقيقية. ثم تم تطوير الروبوت ليكون له ذراع ثالثة مما زاد من دقة المنابلة الجراحية وتحسين النتائج بطريقة أذهلت الجراحين أنفسهم وبسرعة مناسبة، كما كان للتعديل الذي تم بإضافة عدسة التقريب والتبعيد الرقمية Digital Zoom وللفلتر الذي يزيل آثار رعشة اليد أثر كبير في وضع هذا النظام موضع التطبيق.
نظام دافنشي المذهل
لقد استوعب جراحو المسالك نظام دافنشي سريعاً، لما قدمه من رؤية بصرية دقيقة وثلاثية الأبعاد وحرية حركة رسغ ذراع الروبوت ومناورته العالية، فتم في المراحل الأولى إجراء عملية استئصال لكلية منعدمة الوظيفة لسيدة تبلغ من العمر 77 عاماً. لم يكن هذا النجاح مذهلا لأنه فتح آفاقاً لجراحات الكلى فحسب من خلال الروبوت، بل لأن هذا النجاح أيضاً بنى حلماً سعيدا لامتداد هذا النجاح ليشمل جراحات الكلى الأخرى. وبين عامي 2001 و2002 تم إجراء تسع جراحات لتجميل وصيلة حويضة الكلى بالحالب وكانت النتائج باهرة، مع إجرائها في وقت مناسب وبمضاعفات أقل.
وامتدت أفكار جراحي المسالك لاستخدام نظام دافنشي لتشمل مناقشة استئصال أورام البروستاتة، وهي تلك المنطقة الصعبة التي تتطلب مهارات عالية بالجراحة التقليدية ومهارات أعلى بمنظار البطن، كما أنها جراحة يصاحبها نزف كميات من الدم ربما تؤثر في حياة المريض وفي الحزم العصبية الملاصقة للبروستاتة، فينتج عن إصابتها العنانة والسلس البولي. وهي جراحة يعقبها مضاعفات لا توجد في أي جراحة أخرى في المسالك البولية. وتبلورت الأفكار بمرور الزمن وامتدت يد الجراحين لهذه المنطقة الصعبة مستخدمين نظام دافنشي، وكانت النتائج الأولية محيرة وسارة. لقد كانت الإجراءات الجراحية أسهل، وتم تسليخ الحزم العصبية دون إصابات، حتى تسليخ عنق المثانة كان أفضل وأروع؛ إذ كانت قفزةً مهمة نحو جزءٍ مهم من المسالك البولية. وتنامت هذه القفزة بعد الاطلاع على نتائج الفترة التالية للجراحة. لقد اكتشف الأطباء أن الحاجة لنقل الدم أقل والمضاعفات أقل، وحتى الحاجة للإقامة في المستشفى أقل؛ أي إن التكلفة تتجه للانخفاض على الرغم من ارتفاع تكلفة نظام دافنشي. وتوالت مئات وآلاف العمليات الجراحية من خلال روبوت نظام دافنشي لتأخذ بأيدي جراحي المسالك البولية من أحلام وتأملات الماضي إلى نجاحات الحاضر.