العلوم الطبيعيةالكيميا الحيويةكيمياء

الملوثات الكيرالية..

تحد بيئي مقبل

م. خالد العنانزة

أدى التطور التقني الذي شهده العالم في السنوات الأخيرة إلى إنتاج مواد كيميائية ومبيدات وأدوية ومستحضرات صيدلانية جديدة، نتج عن استخدامها أو تصنيعها أو التخلص منها في البيئة ظهور ملوثات جديدة تتصف بالتعقيد والسمية للبشر والأنظمة الإيكولوجية، فأصبحنا في السنوات الأخيرة نسمع بالمواد الكيميائية المعطلة للهرمونات والملوثات العضوية الدائمة. وفي كل يوم تطالعنا تقارير علمية عن أضرار هذه المركبات على الإنسان والأحياء المائية والبرية لاسيما ما يتعلق بأمراض السرطان والتغيرات السلوكية والجنسية.

لذا أصبحت مراقبة هذه الملوثات وتحديد سلوكها وتعقبها في البيئة من المتطلبات الضرورية لمراكز الأبحاث البيئية والعلمية، لاسيما أن سلوك هذه الملوثات وسميتها يتغيران، وأنها تتحول من شكل إلى آخر باختلاف الزمان والمكان والظروف المحيطة. ومن أهم المركبات الطارئة التي أثارت فضول العلماء والباحثين في السنوات الأخيرة ما يُعرف بالملوثات الكيرالية.

مفهوم الكيرالية؟

تم اشتقاق مصطلح (الكيرالية) من الكلمة اليونانية (khier ) ومعناها “راحة اليد”. وفي الكيمياء نقول عن مركبات ما إنها كيرالية إذا كانت تمتاز بخاصية عدم تطابق شكلها الأصلي مع صورتها في المرآة. في الحقيقة تصادفنا في حياتنا كثير من هذه المتماثلات، ومن أشهر أمثلتها اليدان، فلو تأملنا اليد اليمنى واليسرى سنجد أن كل واحدة منهما هي صورة الأخرى في المرآة، لكن لو حاولنا أن نطبق كل منهما على الأخرى سنجد أنهما غير متطابقتين، لذا يمكن أن نصف اليدين بأنهما صورة بعض في المرآة غير متطابقة

(non super imposable mirror images)، وتسمى هذه الظاهرة ظاهرة عدم تطابق اليدين الكيرالية. وهذه الظاهرة ليست مقتصرة على اليدين، بل توجد بين كثير من الأجسام مثل القدمين، والأذنين، وفردتي الحذاء، وأبواب السيارة المتقابلة، وذراعي النظارة.

أما الملوثات الكيرالية فهي جزيئات متشابهة. ويكون كل واحد من جزيئين مرآة للآخر ولا يحدث لهما انطباق ولو أدرنا واحدا منهما حول نفسه. ويطلق على هذين الجزيئين كذلك اسم المتماثلات (enantiomer) أو المقابلات الضوئية، فالمتماثل له نشاط ضوئي بحيث يسبب دورانا للضوء المستقطب ناحية اليمين أو ناحية اليسار، لذا توصف هذه الجزيئات بأنها يمينية أو يسارية. وهذان الجزيئان لهما الصيغة الكيميائية نفسها، أي إنهما مكونان من العناصر الكيميائية نفسها، و لهما كذلك نفس الشكل الهندسي و نفس الخصائص الكيميائية والفيزيائية، لكن في العديد من الحالات يختلفان في الخواص البيولوجية.   فبعض العمليات الحيوية في جسم الإنسان قد تحدث فقط بواحد من المقابلات الضوئية أو المتماثلات لجزيء كيرالي ولا تستجيب غالبا للمقابل الآخر. فمثلا إس-اسبارجين (“يساري”) له مذاق مر فيما أر- اسبارجين (“يميني”) له مذاق حلو . وفي بعض الحالات يكون المقابل الضوئي دواء والآخر سما، أو ذا تأثير فتاك كما هو الحال بالنسبة للثاليدومايد Thalidomid،  الذي ظهر في ستينيات القرن الماضي كدواء مهدئ وكمضاد للغثيان للحوامل، لكن ذلك الدواء كان يحتوي كذلك على مقابله الضوئي الذي سبب تشوها خلقيا للأجنة، فوُلد الآلاف من الأطفال بلا أقدام أو أيد، ثم سحب من الأسواق.

وتتوفر العديد من التقارير التي تحلل الملوثات العضوية في البيئة لكنها لا تخبرنا عن الصورة المرآة mirror images التي يوجد فيها الملوث ومقدار سميته إذا كان ملوثا كيراليا.

إن البحث في ظاهرة الكيرالية مهم جدا في البيئة وبعض الصناعات وبخاصة الدوائية والمواد الكيميائية الزراعية والأغذية والمشروبات الغازية والصناعات البتروكيميائية. وفيما يخص البيئة فالمتماثلات المختلفة لها سمية مختلفة. أما في الصناعات الدوائية والصيدلانية، فقد أصبحت الكيرالية مهمة بعد الأثر الذي خلفته كارثة دواء الثاليوميد، والشيء نفسه بالنسبة للصناعات الكيميائية الزراعية إذ إن هناك العديد من المبيدات الحشرية والمواد الكيمائية الزراعية التي هي أصلا مركبات كيرالية في الطبيعة، ومن الضروري في الصناعات الغذائية التحكم في عمليات التخزين والتخمير، فمثلا أحد المتماثلين يكون طعمه حلوا والآخر مرا وهكذا.

الكيرالية والبيئة

تشكل الملوثات السامة خطرا شديدا على الإنسان والبيئة. ومن أهمها الملوثات العضوية المبيدات والفينولات والهيدروكربونات العطرية والمُلدنات، والملوثات غير العضوية التي تحتوي على بعض أيونات المعادن الثقيلة ومعقداتها. وتنتج الملوثات الكيرالية من مصانع المبيدات الحشرية والصناعات الكيميائية والصيدلانية. ويؤدي استخدام مبيدات الآفات في المنازل والزراعة إلى تلوث واسع في الغابات والمياه السطحية والجوفية. وعادة تدخل ملوثات البيئية إلى جسم الإنسان عبر الغذاء والماء، ومن ثم فإن مراقبة الأغذية والمياه وحفظها من التلوث يعدان من الأمور الضرورية.

وتقوم العديد من مراكز الأبحاث والمختبرات ومراقبة جودة الماء والغذاء والدواء في العالم بتحليل الملوثات العضوية وغير العضوية في الأجسام المائية المختلفة والغلاف الجوي للتأكد من سلامتها، لكن الحقائق ليست بهذه السهولة؛ ذلك أن بعض هذه الملوثات كيرالية بمعنى أن نتائج التحليل لا توضح أي صورة طبق الأصل يوجد بها الملوث! وأيا منها هو الضار! لأن للمتماثلات المختلفة للملوثات سُمية مختلفة.

يعتبر التحليل الكيرالي للملوثات البيئية علما حديث بعض الشيء، وقد جذب انتباه العلماء الشغوفين بالتخصص في السمية في البيئات المختلفة والباحثين في مجال الكيمياء البيئية، إذ إن دراسة مصير وسلوك وحركة وتفاعل وتأثير الكثير من المركبات البشرية في البيئة أمر حاسم لإيجاد الحلول للأخطار التي تهدد حياة الكائنات. فالكثير من المواد الكيميائية التي تنبعث من النشاطات البشرية وتتراكم في الأغذية البرية والبحرية تشكل أخطارا على صحة الإنسان والأحياء البرية والبحرية.

أبحاث كيميائية

تشكل الأبحاث في مجال الكيمياء البيئية مجالا واسعا لدراسة الملوثات العضوية وخاصة النشيطة ضوئيا؛ فهناك مجموعة من المواد الكيميائية القديمة مثل دي دي تي، والكلوردين، والمواد الكيميائية المستخدمة حاليا مثل المواد الكيميائية الزراعية الحديثة والأدوية ومنتجات العناية الشخصية والعديد من مركبات الزينو حيوية xenobiotics تجد اهتمامات عالمية متزايدة باعتبار أن المتماثلين من هذه الملوثات قد يكون لهما سمية مختلفة.

إن المتماثلات الضوئية (Enantiomers) من هذه المواد الكيميائية تخضع عموما لنفس العمليات الفيزيائية والكيميائية في البيئة، لكن قد تختلف الآثار الكيميائية الحيوية والسمية بسبب التفاعلات المختلفة مع الجزيئات الكيرالية الأخرى (أي الإنزيمات في الكائنات الحية). ويعمل العلماء حاليا على تطوير التقنيات التحليلية لقياس تكوين التماثل الصوري للملوثات في البيئات المعقدة، وعلى سبيل المثال، المياه الطبيعية، والرواسب والمواد الغذائية والأنسجة البيولوجية، ومجاري النفايات. وتطبق هذه التقنيات لفهم التحول الأحيائي الفراغي والآثار السمية للمواد الكيميائية الكيرالية في البيئة، والآثار المحتملة على مصيرها النهائي. وقد أظهرت دراسة ميدانية أجريت في أحد مواقع التخلص من النفايات بسويسرا لدراسة مصير (ميكوبروب)، وهو مبيد عشبي، أن نسبة التماثل لكل من متماثلي المبيد (R-mecoprop) و(S-mecoprop) تغيرت خلال مروره في المياه الجوفية، مما يدل على تحليل بيولوجي مختلف في الموقع، وعلى أن المتماثلات للأدوية والمبيدات الكيرالية يمكن أن تظهر تأثيرات مختلفة على الأهداف الحيوية والمصير البيئي.

الكيرالية والمستحضرات الصيدلانية 

وصل التصنيع الدوائي خلال القرن العشرين إلى مستوى متقدم، والعديد من العقاقير والمستحضرات الصيدلانية توجد على شكل متماثلات ضوئية، إذ تظهر الإحصاءات أن %56 من الأدوية والمستحضرات الصيدلانية المستخدمة في العالم حاليا هي في الحقيقة جزيئات كيرالية. وعادة يكون أحد المتماثلين فيها فعالا حيويا، في حين يكون الآخر عديم الفائدة، وقد يتسبب في نتائج غير مرغوبة. وفي عام 1987 أصدرت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية تعليمات تؤكد ضرورة تسليم تطبيقات الأدوية الجديدة بالتوازي مع حقائق عن المواد الكيميائية المصنعة مثل الطرق والمواصفات ونتائج اختبار الثبات والسمية وحدود الشوائب.

وفي عام 1992 أصدرت الهيئة مجموعة أخرى من القوانين مشددة على استخدام المنتج الصيدلاني بشكل المتماثل المنفرد والنقي بشكل مميز. وإذا كانت هناك حاجة لاستخدام مركب له أكثر من متماثل بدلا من متماثل منفرد، فإنه يجب إظهار المسببات لذلك بالتفصيل وإرفاق معلومات عن خطوات التركيب والتحليل ونشاطات المتماثل، بما فيها الحركية الدوائية على حدوث التحول الكيرالي الأيضي المحتمل داخل الخلية وعلى الفروق في السمية بين المتماثلات.وهكذا أصبح للكيرالية دور مهم في الحركية الدوائية لمختلف المركبات الصيدلانية، وازدادت أهمية النقاوة والتماثل الفراغي في الصناعة الدوائية في السنوات الأخيرة. وبدأت العديد من الشركات الصيدلانية تسويق متماثلات نشيطة ضوئيا ونقية لبعض الأدوية، خاصة مضادات الالتهابات والفيروسات وأدوية السرطان والقلب والصرع والأوعية الدموية.

مستقبل الكيرالية 

تعرف الدول المتقدمة جيدا التأثيرات الشديدة للكيرالية، ولديها توجيهات وقوانين لتسويق الأدوية الكيرالية ومراقبة السموم والملوثات الكيرالية في البيئة، في حين لا تبالي الدول النامية بالسمية الشديدة نتيجة الكيرالية ولا تدرس التأثيرات الشديدة والسامة المتعلقة بالمتماثلات المختلفة للمواد الكيميائية الزراعية والملوثات الأخرى. وحديثا تم تشخيص العديد من الأمراض لدى الإنسان التي يمكن ربطها بتلوث البيئة، بما في ذلك تأثير الملوثات الكيرالية. إن السمية والسمية القاتلة نتيجة الكيرالية هي تأثيرات تحدث نتيجة الاستخدام الطويل للمركبات الكيرالية في البيئة، ومع ذلك لا تنظر إليها الشعوب كاختبارات مهمة، بالرغم من أن السمية نتيجة الكيرالية تعمل كسم بطيء ينتج عنه مشكلات صحية خطرة.

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

I agree to these terms.

زر الذهاب إلى الأعلى