الرياضيات التطبيقية

روجيه غودمان عالم الرياضيات المناهض للتسلح

د. أبو بكر خالد سعد الله

في 21 يوليو 2016، رحل عالم الرياضيات الفرنسي روجيه غودمان Roger Godement عن عمر ناهز 95 سنة، تاركا وراءه سجلا خالدا في الرياضيات، ومواقف مشهورة في مناهضة التسلح واستغلال العلم في صناعة الأسلحة والترويج لها. يعتبر هذا العالم من أبرز الرياضيين البارعين في تحرير كتب الرياضيات. وقد عُرف -إضافة إلى علمه الواسع وأبحاثه ومبتكراته في مجال تخصصه الدقيق (الزمر الطبولوجية)- بمواقفه ضد دعم العلم للتسلح وبكتاباته ومداخلاته الكثيرة في هذا الموضوع.

ولد غودمان في مدينة لوهافر Le Havre الفرنسية المطلة على المحيط الأطلسي التي تعرضت لقصف جوي كثيف خلال الحرب العالمية الثانية دمر جزءا كبيرا منها. كان عمره آنذاك أقل من 20 سنة. وبعد أن أنهى دراسته الثانوية هناك التحق بكلية المعلمين العليا في باريس عام 1940 التي كانت، ولا تزال، تستقبل ألمع الطلبة، وحصل على الدكتوراه عام 1946 تحت إشراف عالم الرياضيات الكبير هنري كارتان Henri Cartan.

وكان موضوع أطروحته يتناول ما يُعرف بالتحليل التوفيقي harmonic analysis، إذ برهن فيها على نتائج متميزة. وواصل أبحاثه ونشر عام 1952 أعمالا أصيلة حول الدوال الكرويةspherical functions كان لها تأثير كبير في التحليل الرياضي. من الناحية الصحية اكتشف الأطباء عام 1936 أن لغودمان عاهة في مستوى الرئتين؛ لكن ذلك لم يعقه عن مواصلة الدراسة. وكان قد التحق بسلك التدريس في جامعة نانسي Nancy بعد حصوله على الدكتوراه حتى منتصف الخمسينيات. ثم انتقل إلى جامعة باريس وظل يدرّس فيها حتى تقاعده سنة 1990. وفي تلك الأثناء كانت له عدة زيارات لجامعات ومراكز بحث أمريكية، مثل جامعة برينستون وبركلي. نشر غودمان ثمانية كتب قيّمة ما بين 1958 و 2003 كلها تعتبر مراجع معتمدة في الرياضيات، ولعل أبرزها «دروس في الجبر» Cours d’Algèbre الذي ألّفه عام 1962 وترجم إلى الإنكليزية والعربية.

مع فريق بورباكي

يصنف الكثيرون فرنسا في المرتبة الثانية عالميا، بعد الولايات المتحدة، في مجال البحث الرياضي. ومردّ ذلك حسب بعض المتتبعين هو تشكل فريق من الباحثين الفرنسيين الشباب عام 1933 تحت الاسم المستعار «فريق بورباكي Boubaki”. وقدم هذا الفريق خدمة جليلة للرياضيات الحديثة طوال القرن العشرين. وكان هدف المنتسبين إليه وضع الرياضيات على أسس سليمة يرضى عنها رجال المنطق الرياضي. وقد حدث ذلك في الوقت الذي كانت الرياضيات تعاني فيه كثرة الفجوات في بنيانها المنطقي. وما يلفت الانتباه في عمل هذا الفريق الفرنسي ليس ذلك الإنجاز فحسب، بل المنهج المتميز الذي اتبعه. وكان نشاط الفريق في المرحلة الأولى يتم في جامعة نانسي حيث بدأ غودمان التدريس. وكان الفريق يتكوّن من خريجي كلية المعلمين العليا الباريسية، وهي كلية عريقة ومعروفة بتكوينها النخبوي. أما عدد أعضائه فقارب العشرين عضوا جلّهم فرنسيون لا تتجاوز أعمارهم 50 سنة، حيث يستقيل كل عضو تجاوز هذا العمر ويتجدّد الفريق بتصويت الأعضاء القدماء. ولا شك أن “بورباكي” تبنى هذه القاعدة باعتبار أنه قلما نجد نظرية جميلة في الرياضيات اكتشفها صاحبها بعد تجاوز تلك السن. كما أن المتفق عليه أن تظل أسماء المنتسبين إلى الفريق سرًا وأن تصدر المؤلفات بالاسم المستعار “نيكولا بورباكي”.

لم يكن غودمان مدرّسا متميزا بسبب صوته المتلعثم أمام السبورة، لكن مضمون محاضراته كان قيما ويُقدَّم بأسلوب أشبه بأسلوب «بورباكي» المتسم بالدقة والمتانة المنطقية. وعلى الرغم من أن كتبه ألفت بالفرنسية، ثم ترجمت بصفة خاصة إلى الإنكليزية فإنه كان يحث الطلبة دائما خلال دروسه على الاطلاع على مؤلفات بالإنكليزية والروسية والألمانية.

مواقفه السياسية

كان غودمان يُعرف بالتزامه السياسي؛ وفي هذا السياق يُروى أنه كان يسعى دائما خلال إلقاء محاضراته إلى إبداء آرائه فيما يجري في العالم. فعلى سبيل المثال، كان خلال حرب فيتنام يستهل محاضراته في الجبر بالقول : «دعنا نتذكر عملية الجمع»… ثم يقيم جدولا إحصائيا يُظهر عدد القتلى أثناء معارك هذه الحرب.

كما عُرف غودمان خلال الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي بموقفه الصريح المناهض للاستعمار وللحرب التي كانت تشنها فرنسا ضد الجزائر، بل نادى آنذاك بتحرير هذا البلد. ولما استقلت الجزائر عام 1962 قرر غودمان التدريس في جامعتها سنة 1964-1963 لمساعدة هذه الجامعة التي فرّ منها طاقمها الفرنسي، وكانت تفتقر إلى الأساتذة، وبصفة خاصة أساتذة الرياضيات. وألف غودمان عندئذ كتابا من جزءين أهداه إلى الاتحاد العام للطلبة الجزائريين الذي طبعه عام 1964.

وعندما كان غودمان أستاذا في جامعة السوربون عام 1958 كان من بين طلبته جزائري، يدعى محمد رزوق، يعمل في الخفاء مناضلا يجند الطلبة الجزائريين في فرنسا للانضمام إلى صفوف ثورة التحرير، وأسس مع زملائه اتحاد الطلبة الجزائريين المعروف. ثم ألقي عليه القبض في فرنسا وسجن هناك. وعندما سمع غودمان بسجنه راسل مدير السجن في رسالة من صفحتين يوم 27 أكتوبر 1958 يطلب إليه فيها بأن يسمح للسجين بالحصول على الكتب والمحاضرات وبإمكانية إرسال حلول المسائل والفروض إلى أساتذته بالجامعة.

موقفه ضد التسلح

كان غودمان يعيش هاجسا قويا؛ فالعلم بصفة عامة والرياضيات بصفة خاصة تخدم انتشار السلاح وتطوير صناعته وتكنولوجيته، وهو ضد هذا «التعاون» بين العلم والتسلح. وفي الوقت نفسه احتار في كيفية التوفيق بين مواصلة البحث في شتى العلوم مع العمل على الحد (بل الامتناع) عن تقديم يد العون لصناعة السلاح، باعتبار أن العالَم يحتاج إلى السلام وإعانة المستضعفين وليس إلى تطوير آلات الدمار!

ألّف غودمان بعد تقاعده سلسلة من الكتب القيمة في التحليل الرياضي باللغة الفرنسية، ثم ترجمت إلى الإنكليزية. نجد في أحد كتبه بابًا يضم نحو مئة صفحة عنوانه «العلم والتكنولوجيا والتسلح»، وهو في الواقع لا يمت بأي صلة لموضوع الكتاب. وكان قد كتب في مقدمة السلسلة أنه طلب إلى الدار الألمانية «شبرينغر» Springer عدم منعه من الغوص فيما يريد ضمن السلسلة فوافقت على طلبه.

وكتب موضوعا مستفيضا في 26 صفحة ثريا بالمراجع نجده في موقعه بعنوان «بدايات الأسلحة الكيميائية» تعرض فيه إلى تطور هذا السلاح، وإلى من وقف معه وضد استعماله. والواقع أن هذا النص يستند إلى محاضرة ألقاها في ملتقى «من أجل تحريم السلاح الكيميائي» نظم في باريس يوم 6 يناير 1989. ولما سئل غودمان عن سبب إقحام النصوص الطويلة المنددة بالتسلح وعلاقتها بالرياضيات في كتبه التي تتناول مواضيع في الرياضيات البحتة، دافع عن رأيه مشيرا إلى أن المختص في الرياضيات البحتة له حظوظ ضعيفة جدا في أن ينجز عملا خارقا ( في أهميته التدميرية) يضاهي صنع القنبلة الهيدروجينية. ويلاحظ غودمان أن صنع هذه القنبلة ما كان ليتحقق لولا مساهمة رياضيين كبار، مثل عالم الرياضيات البحتة ستان أولام Stan Ulam 1984-1909)). لكن ما ينتظر المختصين في الرياضيات بصورة عامة، شأنهم شأن الفيزيائيين والكيميائيين والبيولوجيين وغيرهم، هو أن يُطلب إليهم الإسهام في مشروعات صغيرة ذات طابع عسكري دون أن يشعروا بذلك أو في مشروعات عسكرية كبرى تقدَّم إليهم على أنها مشروعات علمية محضة.

من الصعب أن نميز بين الرياضيات المفيدة للصناعة العسكرية «المدمرة» وبين الرياضيات «السلمية». يرى غودمان أن الأهم من الجدل في هذا التمييز هو سلوك الباحث : هل الباحث مستعد للتعاون مع مُصنِّع السلاح المدمر أم لا؟

والجدل مستمر…

يولي بعض العلماء أهمية بالغة لما قدمه غودمان في الجزء الثاني من كتابه حول التحليل الرياضي حين تعرض إلى «العلم والتكنولوجيا والتسلح»، إذ طرح المسائل الأخلاقية بكل أبعادها وكتب من التوضيحات الدقيقة ما لم يكتبه غيره في هذا المجال .

ويقدر غودمان ما أنفقته الولايات المتحدة في موضوع السلاح النووي منذ 1939 حتى نهاية القرن العشرين بأكثر من 5500 مليار دولار. لكن خصومه يؤكدون أن ذلك كان ثمن الردع، أي ثمن عدم اندلاع حرب عالمية مدمرة ثالثة! لكن الجدل يتواصل بالقول إنه لم يكن ممكنا قط أن تدخل دولة مثل الاتحاد السوفييتي التي فقدت 20 مليون نسمة خلال الحرب العالمية، ودُمِرت بنيتها التحتية، ناهيك عن ثقل تكفلها بـ 11 مليون جندي ظلوا مجندين نحو سنتين بعد تلك الحرب.

علينا ألا نغفل في هذا السياق معضلة أخرى في حال توقف البحث العلمي في المجال العسكري: سيؤدي ذلك إلى وضعيات صعبة في قطاعات عديدة، مثل قطاع المعلوماتية والطيران المدني والفضاء وميكانيكا السوائل، إلخ. ذلك أن التقدم الذي أحرزته العديد من المجالات كان في الواقع يرعاه ويدعمه البحث العلمي في المجال العسكري!

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

I agree to these terms.

زر الذهاب إلى الأعلى