العلوم الطبيعية

تجميد الضوء وشلّ حركته

د. ليلى صالح محمود العلي

الضوء يتحرك أو يتنقل في الفضاء بأعلى سرعة معروفة في عالمنا ومقدار هذه السرعة هو 300 ألف كيلومتر في الثانية، أي 300 مليون متر في الثانية، فهل لنا أن نتخيل هذه السرعة الهائلة؛ أي إن الضوء سيتمكن خلال دقيقة واحدة من قطع مسافة 18 مليار متر، وهذه المسافة تعادل الذهاب إلى القمر والعودة منه 20 مرة، فهل لنــــــا أن نتـصور مـــرة أخـــــــرى  ضخامة ما تعنيه المسافة التي يقطعها الضوء خلال دقيقة واحدة.

على الرغم من السرعة الهائلة للضوء فقد نجح بعض العلماء، ومنهم باحثون ألمان في عام 2014 في شلِّ حركة الضوء وجعله يجمد في مكانه لنحو دقيقة واحدة. وتم تسجيل بعض النجاحات لتجميد الضوء لثوان أو لأجزاء من الثانية في مراكز بحث أخرى.
وبنجاح العلماء في تثبيت الضوء في مكانه وشل حركته نكون قد اقتربنا خطوة من تصنيع حواسيب كمومية يمكن أن تصبح في يوم ما حقيقة واقعة. وتعتبر هذه البحوث تطورا علميا لافتا نحو مستقبل أفضل وفهم أشمل للحياة وغوامضها، وستتيح إمكانات هائلة للتقدم مستقبلاً في مجال الحواسيب الكمومية ومجال فهم الكون بصورة أشمل.
وكلما تمكن العلماء من شل حركة الضوء مدة أطول تحسنت وسائل الاتصال الكمومية للمسافات البعيدة. وتحقيق ذلك سيتطلب مساعدة الحواسيب الكمومية، وهذه لا تستند في عملها إلى البِتْة (bit) الرقمية الثنائية الكلاسيكية بل تستعمل البِتْة الكمومية أو كيوبِتْة qubit. والفرق بين الكيوبِتْ والبِتْ الرقمية أنَّ اثنتين من الكيوبِتْة يمكن أن تكونا في الحالة نفسها ولا يمكن فصلهما كما في حالة البِتْة الرقمية.
والحاسوب الرقمي يَختلفُ عن الحاسوب الكمومي اختلافات هائلة، أبسطها أنَّ الحاسوب الرقمي يعتمد النظام الرقمي الثنائي 0 و 1 وأنَّ وحدة خزن المعلومات هي البِتْة الرقمية. وهذه البتة قادرة على خزن الرقم 0 أو خزن الرقم 1، وليس الرقمان في آنٍ واحدٍ. أي لو أنك كُنتَ قادراً على رؤيةِ المعلومةِ المخزونةِ في بِتٍة معينةٍ لوجدتها إما 0 وإما 1، ولا يمكن أنْ تجدَ المعلومتين على بِتٍة واحدةٍ، وهذا سيحدّ من عمل الحواسيب الرقمية ولن يجعلها قادرة على التعامل مع أعداد مؤلفة من أكثر من20 أو 30 رقماً ثنائياً ولن تستطيع التعامل مع أعداد أكبر من ذلك. أما في الحواسيب الكموميَّة فوحدة خزن المعلومات تسمى «الكيوبِتْة»، وهذه يمكنها أن تخزن المعلومتين آنياً وفي اللحظة نفسها على كيوبِتْة واحدة. وهذا ناتج عن حالة في الفيزياء الكموميَّة تُسمى حالة التشابك entanglement state، وهذا يعني أنَّ اثنتين من الكيوبتات يُمكنُ أنْ تكونا في الحالة الكمومية نفسها ولا يمكن فصلهما كما في حالة البِتة الكلاسيكية التي يمكن فصلها إلى أصفار آحاد؛ أي لا يُمكنُ فصل الكيوبِتْات إلى أصفار آحاد.
ومن أهم صفات الحواسيب الكموميَّة هو قابليتها للتعامل مع أعداد كبيرة فعلاً مؤلفة من 500 أو 600 من الأرقام الثنائية. لكم أنْ تتخيلوا حجم ترليونات الترليونات من المعلومات التي يمكن أنْ يتعامل معها أي حاسوب كمومي!

العلاقة بين الكتلة والطاقة
يَعرفُ جميع الفيزيائيين أن الكتلة والطاقة هما وجهان لعملة واحدة من خلال معادلة مفادها أن الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء (E=mc2)؛ أي يمكننا القول إن الكتلة هي شكل آخر من أشكال الطاقة وإن الطاقة هي شكل آخر من المادة.
وهذا يعني أن كل ما يمكننا أن نقوله عن الكتلة يمكننا كذلك قوله عن الطاقة. وكلنا يعرف أن للكتلة تثاقلاً وحالما تُذكر أمامنا نتخيلها شيئاً ملموساً له أبعاد معينة وله تثاقل، أي وزن، فهل للطاقة تثاقل أيضاً؟ الجواب هو نعم! فكل ما نقوله عن الكتلة يجب أن يكون صحيحاً عن الطاقة أيضاً مع الفارق أن هذا أصعب بكثير جداً؛ لأن كتلة صغيرة جداً يمكنها أن تتحول إلى طاقة هائلة في حين أننا نحتاج إلى طاقة هائلة كي نحصل منها على كتلة صغيرة جداً.
يتطلب الحصول على مادة من طاقة كهرومغنطيسية تصادم فوتونين ليتحولا إلى مادة وضديدها مثل إلكترون وبوزترون! وعلى العكس من ذلك نحصل على الطاقة من إبادة جسيمين ماديين.
في الواقع هذا يحدث طوال الوقت في الشمس، فمصدر الطاقة التي تبعثها الشمس هو من تحويل الكتلة إلى طاقة. فالتثاقلية الشديدة للشمس تتسبب بإقحام بروتونين أحدهما في الآخر ليشكلا نواة ذرة هليوم. بعد ذلك يتحول جزء صغير جداً من كتلة البروتونين إلى طاقة. والطريقة الوحيدة المعروفة حالياً لتحويل %100 من المادة إلى طاقة هي بجعل مادة ترتطم بشدة مع ضديدها، مثل تصادم إلكترون مع بوزترون. وربما من المفيد هنا أنْ نذكر أننا حين نُشعل عود ثقاب فإن كمية متناهية الصغر من المادة تتحول إلى طاقة، كمية متناهية الصغر لا يتجاوز مقدارها جزءاً واحداً من مئة مليار جزء من الغرام.

الأسس العلمية النظرية
كان العالمان بْرِتْ وويلير أول من تحدث عن الأسس العلمية لتجميد الضوء في عام 1934، فقد قالا إنه من الممكن تحويل الضوء إلى مادة من خلال صدم فوتونين أحدهما بالآخر، فينتج عن هذا الصدام إلكترون وبوزترون.
وعلى الرغم من أن الحسابات النظرية للعالمين كانت صحيحة ونظريتهما راسخة جداً، لكنهما أوضحا عدم إمكانية تصميم وتصنيع أجهزة لتحقيقها من قِبَلِ أي شخص؛ فالفوتونات، أي جسيمات الضوء، تتفاعل عادةً مع المادة فقط ولا تتفاعل مع بعضها بعضا.
والفكرة الأساسية التي استند العلماء إليها لتحقيق ذلك هي جعل الفوتونات تتفاعل مع بعضها بعضا كي تفقد طاقتها، تماماً مثلما تفقد جزيئات الماء طاقتها الحرارية فتتجمد. وتجرى حالياً بحوث للحصول على المادة من الضوء، وقد مهد فريق بحث علمي من جامعتي هارفرد ومعهد ماساتشوستس للتقانة الطريق نحو إمكانات هائلة للتقدم مستقبلاً في هذا المجال، ونجح باحثون ألمان في عام 2014 بتجميد الضوء لمدة دقيقة واحدة.
وعند كلامنا عن المادة يتبادر لأذهاننا أنها أمر يمكن لمسه وحمله. لكن علماء الجامعتين الأمريكيتين وبقية المراكز البحثية المهتمة بالموضوع سيغيرون تلك الثوابت عن المادة وعن إمكانية استعمال الفوتون لتكوين جزيئات.
ويعارض الدكتور ميخائيل لوكن من جامعة هارفرد الفكرة السائدة التي مفادها أن الفوتونات هي جسيمات أولية ليس لها كتلة ولا تتفاعل مع بعضها بعضاً، ويقول إننا سنجعلها تتفاعل مع بعضها بعضاً. وبالفعل تمكن فريق بحثي من جعل الفوتونات تتفاعل مع بعضها بعضاً بقوة لتكوين جزيئات وإحداث كتلة.
وسيكون لمثل هذا الاكتشاف تطبيقات عديدة في المستقبل حالما يتحسن فهم العلماء للموضوع ولميكانيكية حركة الفوتونات، وسيكون أكبر فوائده في الحواسيب الكمومية التي تتمكن من التعامل مع الفوتونات لإجراء عمليات حسابية منطقية على المستوى الجزيئي. وربما ستتمكن من الذهاب لأبعد من ذلك لتكوين تراكيب بلورية ثلاثية الأبعاد من الضوء.
وقد استخدمت منظومة ذلك الفريق بلورة، وليزراً مزدوجاً، واستفادوا من الخواص الكمومية لحصر أحد الشعاعين داخل الشعاع الثاني. وبعملهم هذا تمكنوا من خزن معلومات بصورة ضوء داخل البلورة واستردادها بعد ذلك بنجاح.
والمنظومة معقدة جداً لتجعل أحد الفوتونين يتبادل طاقة مع فوتون آخر مما يجعلهما في حالة تشبه الحالة البلورية للمادة، وكان عليهم في البداية استعمال ضوء ليزر هائل الشدة لأجل تسريع حركة إلكترونات إلى سرعة قريبة جداً من سرعة الضوء، وبعد ذلك يتم تسليطها على شريحة من الذهب للحصول على حزمة فوتونات ذات طاقة تفوق طاقة الضوء المرئي بمليارات المرات.
وأهم ما يحصل هنا هو تأثيرات التداخل الكمي التي تجعل الوسط المعتم الذي لا يسمح بمرور الضوء شفافاً لحزمة ضيقة من الطيف الكهرومغنطيسي، وتُعرف هذه العملية في الفيزياء باسم شفافية محتثة كهرومغنطيسياً EIT. وعند مرور الضوء الليزي خلال البلورة سيجعل ذراتها في وضع تراكب لحالتين كموميتين ، عندها تنطلق حزمة ثانية لإيقاف حزمة الليزر الأولى. وهذا يعني أنَّ حالة التراكب الكمومية قد تقوضت وتمَّ احتباس الحزمة الثانية داخل الحزمة الأولى.

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى