استشراف المستقبلقضاياوباء الكورونا

استشراف المستقبل ما بعد كوفيد

الخبير الاقتصادي سليمان القدسي يستخدم النمذجة الاقتصادية لمساعدة صانعي السياسات والمواطنين الكويتيين على التخطيط للمستقبل

ينصبُّ عمل سليمان القدسي على تصور ما سيكون عليه المستقبل. حصل القدسي المقيم في الكويت منذ فترة طويلة على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة كاليفورنيا، ديفيس عام 1979. عمل مستشارا مهنيا لدى منظمات عدة، مثل البنك الدولي وبنك التنمية الآسيوي ومنظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول، ويعمل حاليًا أخصائي أبحاث رئيسيا في قسـم الاقتـصاد الـتقني بمـعهد الكويت للأبحاث العلمية.

لطالما اهتم القدسي بدراسة الكيفية التي تؤثر وفقها التغيرات العالمية في الأنظمة الاقـتصـادية والمجـتمعات. استـكـشف أحـد مشاريعه الأخيرة تأثيرات جائحة كوفيد – 19 وانهيار أسعار النفط، وهما من أهم التغيرات التي شهدها في حياته، وقد رزحت تحت ثقلهما الكويت والعالم في الربع الأول من عام 2020. بدعم من مؤسسة الكويت التقدم العلمي، قاد القدسي فريق عمل وضع نمذجة لتبعات هذه “الكارثة المزدوجة” على الكويت. يمكن لتوقعات الفريق التي نُشرت لأول مرة في أبريل 2021 أن تساعد صانعي السياسات والمواطنين على التخطيط للمستقبل ما بعد كوفيد. عندما سئل: كيف خلص فريقه إلى تلك النتائج، قال القدسي مازحا “ليس لدينا كرة بلورية سحرية”. بدلا من ذلك، اعتمد القدسي وفريقه على البيانات المتوفرة والمسوحات الميدانية الجديدة وطرق النمذجة الاقتصادية لاستخلاص التوقعات المستقبلية ورفع توصيات للمسار الواجب اتباعه للمضي قدمًا بعد الصدمتين القويتين.

نهج متعدد الجوانب

طرأت فكرة المشروع قبل نحو عامين تمامًا مع إعلان كوفيد – 19 جائحة عالمية في مارس 2020، علمًا أن فريق أبحاث القدسي “يرصد” على الدوام التحولات في الأسواق العالمية والإقليمية والكويتية. فقد جعلتهم عقود من الخبرة مراقبين يقظين لما يجري من حولهم. قال القدسي: “عندما نشعر أن شيئًا ما يرتسم في المستقبل القريب، نستمر في المراقبة ونبدأ بجمع البيانات والمعلومات عنه”.

جعل هذا النهج الاستباقي القدسي وزملاءه في طليعة المشهد عندما اكتسح كوفيد19- العالم. وعندما أغلقت الحكومات الشركات وفرضت قيودًا على السفر، انخفض الطلب العالمي على النفط، مما أدى إلى انهيار غير مسبوق في أسعار الخام في أبريل 2020. خلال هذه الفترة، اطلع القدسي وزملاؤه على بيانات من الولايات المتحدة وكندا وأمريكا اللاتينية وأوروبا وآسيا والشرق الأوسط لفهم الكيفية التي تؤثر وفقها هذه التغيرات في مختلف المناطق في جميع أنحاء العالم، وتقدير الكيفية التي ستؤثر بها هذه التغيرات في الكويت.

لكن الدوريات المتاحة لم توفر معلومات كافية لإنتاج نمذجات اقتصادية دقيقة للكويت. قال القدسي: “عندما حلت الجائحة، واجهنا بالفعل ندرة في البيانات”.

لتطوير نمذجات أكثر دقة للكويت، اقترح القدسي وفريقه مشروعًا يجمع بين أبحاثهم الأولية وبيانات المسح الجديدة. قال: “كان هدفنا الحصول على تمثيل جيد وإجابات من أرض الواقع”. تلقى الفريق خطاب دعم من خالد المهدي من المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية في الكويت وتمويلاً من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي. وبفضل هذا الدعم، صمم الفريق ثلاثة استبيانات ميدانية ونفذها لاستكمال بحثه الأولي.

وُزعت الاستبيانات الثلاثة على العاملين والأسر وكبار رجال الأعمال في جميع أنحاء الكويت، وزُود فريق البحث بما يحتاجون إليه تحديدًا لتنفيذ مشروعهم. قال القدسي: “كانت البيانات جديدة وثرية بالمعلومات”. لكنها رسمت صورة رهيبة لما يمكن توقعه.

أفـاد قادة الأعـمـال الـذين شـمـلهم الاستطلاع أنهم خسروا في المتوسط 30 إلى %50 من مبيعاتهم خلال الجائحة. وأظهرت البيانات أن الشركات الصغيرة والمتوسطة هي الأكثر تضررًا، واضطر الكثير منها إلى الإغلاق. وأظهرت البيانات التي جُمعت من الأسر الكويتية وغير الكويتية في الدولة أن دخل الأسرة انخفض، إذ فقد العديد من أفراد الأسر وظائفهم أو عانوا خفضَ رواتبهم خلال الأشهر الأولى من الجائحة.

من خلال البيانات التي جُمعت من العاملين الذين شملهم الاستبيان، استنتج فريق القدسي أن نحو ربع مليون عامل أجنبي غادروا الكويت لأنهم فقدوا وظائفهم، أو اختاروا العودة إلى ديارهم ليكونوا بجوار عائلاتهم وسط حالة من عدم اليقين الوظيفي. وقال القدسي إن بيانات وفرتها الحكومة الكويتية أكدت هذه التقديرات في وقت لاحق.

قال القدسي: “القاسم المشترك هو أن الجائحة كانت وحشية. كانت حقًا قاسية على قطاع الصحة وعلى الناس وعلى العاملين فضلاً عن الطلبة. الشركات تضررت بشدة”.

أخيرًا، استخدم فريق القدسي نمذجة الاقتصاد القياسي والتوازن العام القابل للحوسبة Computable General Equilibrium (اختصارًا: نمذجة CGE) لفهم التغيرات ورسم التوقعات. كان استخدام نمذجات CGE هو النهج المثالي للمشروع لأن هذه النمذجات تجمع بين النظرية الاقتصادية والبيانات الحقيقية لقياس التأثير الاقتصادي للصدمات.

رسم مسار المستقبل

نشر الفريق أول تقرير شامل عن نتائجه في أبريل 2021. ومنذ ذلك الحين نشر أبحاثًا أخرى بناء على النتائج نفسها. هذه الدراسات المنشورة تسلط الضوء على كفاح الكويتيين اليومي، وتبرزها أمام واضعي السياسات في الكويت والمنطقة عموما. كما أنها توجه صانعي السياسات من أجل رسم مسار يقود نحو التعافي بعد الصدمة الأولية للجائحة وانهيار أسعار النفط في عام 2020.

يوفر البحث أيضًا رؤية عميقة للمواطن الكويتي حول مستقبل قطاعات العمل والتعليم والتجارة والتواصل الإنساني. إحدى نتائج الدراسة المثيرة للاهتمام والتي يمكن أن تساعد الكويتيين على التخطيط للمستقبل هي “التسارع التكنولوجي”Tech-celeration، وهو مصطلح يستخدم لوصف مدى السرعة التي تتغير وفقها الأشياء بفضل التقدم الحاصل في التكنولوجيا.

وجد فريق القدسي أن التكنولوجيا بدأت باختراق قطاعات جديدة وإعادة تشكيلها خلال الجائحة في الكويت وخارجها. كانت التغيرات جيدة من بعض النواحي؛ فهي سمحت للطلبة بمواصلة التعلم عبر الإنترنت عندما كانت المدارس مغلقة بفضل تقنيات التعليم الجديدة. لكن “التسارع التكنولوجي” ألقى أيضًا في براثن البطالة بشريحة من العاملين غير المتمرسين بالتكنولوجيا أو الذين لم تكن شركاتهم مستعدة للتحول إلى بيئات عمل تتمحور حول التكنولوجيا. تشير هذه البيانات إلى أن العاملين والشركات على حدٍ سواء بحاجة إلى الاستعداد لعالم إلكتروني أكثر اعتمادًا على التكنولوجيا.

قال القدسي: “عندما نخاطب صانعي السياسات وكذلك الناس العاديين، فإننا نخبرهم أننا بحاجة فعلاً إلى مراقبة ما يحدث”. لقد جعل بحثه رصد تأثير التحولات الاقتصادية العالمية والتخطيط للمستقبل أسهل من أي وقت مضى.

بقلم ماريانا دينين

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى