اخترنا لك

هل تعكس جائزة نوبل تقدّم العلوم؟!

يلاحظ العلماء والباحثون أن جائزة نوبل لم تعد تعكس طبيعة التقدم الذي يحققه العلم سنة بعد أخرى، لذا حان الوقت لتحديث آليات الجائزة وشروطها.

د. أبو بكر خالد سعد الله
قسم الرياضيات، المدرسة العليا للأساتذة،القبة، الجزائر

تُعَدّ جائزة نوبل أبرز جائزة أكاديمية عالمية يفوز بها العلماء في الفيزياء والكيمياء والطب، وأيضا في الأدب والسلام. وسنركز في هذا المقال على الاختصاصات العلمية الثلاثة الأولى لإبراز بعض الاختلالات التي شهدها ولايزال يشهدها اليوم منح هذه الجائزة التي أنشئت المؤسسة المانحة لها في العاصمة السويدية استوكهولم عام 1900.

وجائزة نوبل تكريم دولي، يحتفظ بها العلماء الحاصلون عليها مدى الحياة، ولا يمكن سحبها منهم، حتى في حالة ظهور خطأ يتعلق بالأهمية العلمية الحقيقية لاكتشافاتهم. وقد مُنحت هذه الجائزة أول مرة عام 1901. ومنذ تلك السنة فاز بها نحو 900 شخصية من جميع أنحاء العالم. بل هناك من فاز بها مرتين عن جدارة، مثل الباحثة الفرنسية، ذات الأصول البولندية، ماري كوري Marie Curie (1867-1934)، التي كوفئت في عام 1903 بجائزة نوبل في الفيزياء، ثم بالجائزة المخصصة للكيمياء عام 1911.

جدل حول الجائزة

سنستعرض فيما يلي بعض الحالات التي أثارت جدلا في الأوساط العلمية حول منحها جائزة نوبل.

فقد منحت جائزة نوبل عام 1908 في الكيمياء للفيزيائي النيوزيلندي إرنست رذرفورد Ernest Rutherford (1871-1937)، اعترافًا بقيمة أبحاثه حول انشطار العناصر الكيميائية. وكان ذلك أمرا مثيرا للجدل لأن اختصاص الفائز هو الفيزياء البحتة! فكيف تمنح له هذه الجائزة في الكيمياء؟ وقد مزح رذرفورد حين نال الجائزة في الكيمياء (وليس في الفيزياء) بقوله إنه غالبًا ما تمكّن من ملاحظة تحوّل مادة إلى أخرى، لكنه، للمرة الأولى، يشاهد عالما فيزيائيا يتحوّل إلى عالم في الكيمياء!

وكيف نتصور أن صاحب الجدول الكيميائي الذائع الصيت، ديمتري منديليف Dmitri Mendeleïev (1834-1907) المتوفى عام 1907، قد غفلت عنه لجنة نوبل؟ وكان اسمه واردا عام 1906 في قائمة المرشحين، وكاد يفوز بالجائزة، لكنه توفي في العام التالي. ويذهب بعض المتتبعين إلى القول إن إغفال اسم هذا الكيميائي كان بسبب مكائد وراء الكواليس حبكها ضده أحد أعضاء لجنة نوبل من المعارضين لعمله.

وبعد عقد من الزمن تصدرت عناوين الصحف خبر منح جائزة  الكيمياء للألماني فريتز هابر  Fritz Haber (1868-1934)، الذي يُعتبر “مؤسس السلاح الكيميائي”. وقد حصل على هذه الجائزة عام 1918 لنجاحه في تصنيع الأمونيا، وقدمت لجنة نوبل عمله على أنه بالغ الأهمية للزراعة ورفاهية البشرية حيث اكتشف كيفية إنتاج الأمونيا من النتروجين والهيدروجين. وتمّ استخدام طريقته في صناعة الأسمدة فقدم خدمة كبيرة لميدان الزراعة في جميع أنحاء العالم.

والمفارقة، أن هذا الكيميائي طوّر غازات سامة قبل ذلك التاريخ، وأشرف على استخدامها بنفسه. لكن لجنة جائزة نوبل تجاهلت ذلك الدور الذي أدّاه في الهجمات الكيميائية التي جرت خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918). وكان هاربر مؤيدًا متحمسًا لجهود الحرب الألمانية، وأشرف بنفسه على أول هجوم بغاز الكلور على مدينة إيبريس Ypres البلجيكية عام 1915، مما أدى إلى مقتل آلاف العسكريين من قوات الحلفاء.

و خلال الفترة 1922-1946، رشح الفيزيائي والكيميائي الأمريكي جيلبرت لويس Gilbert Lewis (1875-1946) 41 مرة لجائزة نوبل في الكيمياء. غير أنه لم ينلها رغم إسهاماته الأساسية في دراسة خصائص الإلكترون. يُروى أن لويس كان يعمل في مختبر الفيزيائي والكيميائي الذي يشرف عليه الألماني والثر نيرنست Walther Nernst (1864-1941). ومن المعلوم أن نيرنست نال جائزة نوبل في الكيمياء عام 1920، وقد كانت بين الرجلين حساسية مفرطة، ويبدو أن هذه الحساسية هي السبب في عدم نيل لويس جائزة نوبل.

وقد وجّه لويس انتقادات صريحة لنيرنست في مناسبات كثيرة، واصفًا عمله في نظرية الحرارة بأنه كان “مرحلة مؤسفة في تاريخ الكيمياء”. يُذكر أن صديق نيرنست، الكيميائي السويدي فيلهلم بالمير Wilhelm Palmær (1868-1942)، كان عضوًا في لجنة جائزة نوبل للكيمياء، وأن هناك أدلة تثبت أن بالمير وقف ضد منح لويس هذه الجائزة.

استبعادات وتحيزات

منحت جائزة نوبل في الطب عام 1926 للدنماركي يوهانس فيبيجر Johannes Fibiger عقب اكتشافه أحد أنواع السرطان. وتوصل إلى هذه النتيجة بعد أن أجرى تجاربه على الفئران. وبعد وفاة الفائز، أظهرت الدراسات أن نتائج تجاربه لم يتم تفسيرها بالشكل السليم.

ولا يمكننا هنا أن نغفل عن ذكر طبيب الأعصاب البرتغالي أنطونيو مونيتز António Moniz  (1874-1955) الفائز بجائزة نوبل في الطب عام 1949 لاكتشاف القيمة العلاجية للجراحة الفصّية لبعض حالات الذِّهان. ومن شأن هذا النوع من الجراحة مساعدة المرضى عقليًا على اكتساب نوع من الاطمئنان الداخلي. ويُروى أنه كان يجري مثل هذه العمليات على المصابين بالأمراض العقلية في ملجأ بالعاصمة البرتغالية لشبونة. وقد هاجمه أحد المرضى في السنة نفسها. ومنذ ذلك التاريخ اضطر الدكتور مونيتز إلى التنقل فوق كرسي متحرك. ومع مرور الوقت، وبينما أجريت أكثر من 70 ألف عملية من هذا القبيل في العالم، أدرك المختصون أن هذه العملية لا تعالج المرضى، بل إن ضررها أكثر من منافعها.

يمكننا أيضًا الإشارة إلى كيميائي ألماني آخر، وهو أوتو هان Otto Hahn (1879-1968)، الذي منحت له جائزة نوبل في الكيمياء عام 1944 لاكتشافه الانشطار النووي. ومن المعلوم أن اكتشافه أسهم بقسط كبير في صناعة القنبلة الذرية.

أما في عام 1948 فمنحت جائزة نوبل في الطب للكيميائي السويسري بول مولر Paul Müller  (1899-1965)، وذلك لتسليط الضوء على اكتشاف تبيّن فيما بعد أنه جيّد وسيئ في آن واحد. لم يخترع مولر المادة المعروفة باسم “دي دي تي” المبيدة للحشرات، لكنه أثبت أن هذه المادة مبيد قوي للآفات يمكنه القضاء على عدد كبير من الذباب والبعوض والخنافس خلال فترة زمنية قصيرة.

وهكذا ثبت أن المادة فعالة بشكل كبير في حماية المحاصيل الزراعية والسيطرة على الأمراض التي تنقلها الحشرات مثل التيفوس والملاريا. فقد أنقذت مادة “دي دي تي” آلاف الأرواح وساعدت على تخليص جنوب أوروبا من الملاريا. غير أن دعاة حماية البيئة أدركوا في الستينات من القرن العشرين، أن هذه المادة كانت تسمم الحياة البرية والبيئية. ذلك ما أدى بالولايات المتحدة إلى حظرها سنة 1972. وكذلك فعلت دول العالم عام 2001 بموجب معاهدة دولية، مع بعض الإعفاءات للبلدان التي تكافح الملاريا باستخدام هذه المادة.

كما حصل عالم الأحياء الأمريكي بيتر أغري Peter Agre عام 2003 على جائزة نوبل نتيجة اكتشافه لما عرف بـ”القنوات المائية والقنوات الأيونية”. وكان الطبيب الروماني جورج بنغا Gheorghe Benga قد أثبت وجود قناة مائية بروتينية في غشاء خلايا الدم الحمراء، وهو عمل يرى المختصون أنه يستحق أن يكون اسم صاحبه إلى جانب الأستاذ بيتر أغري في هذه الجائزة. لكن ذلك لم يحدث رغم أن هذا الأخير اعترف بإسهام بنغا في هذا الاكتشاف.

من الأمثلة الأخرى، يمكن ذكر عالم الفيزياء الألماني غيرهارد إرتل Gerhard Ertl، الذي حصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 2007 عرفانًا بأهمية دراساته حول الأسطح المعدنية. وقد عبّر هذا العالم عن دهشته وخيبة أمله حين تبيّن أن  الكيميائي الأمريكي، المجري الأصل، غابور سومورجاي Gábor Somorjai، الرائد في علم الأسطح والحفز الكيميائي الحديث، لم يشاركه في هذه الجائزة. من جهة أخرى، انتقدت الأسرة العلمية قرار لجنة جائزة نوبل القاضي باستبعاد غابور سومورجاي من هذا الاستحقاق ولا يزال قرار اللجنة لغزا.

الجائزة وطبيعة التقدم العلمي!

في شهر أكتوبر من كل عام، يطالعنا الإعلام بأسماء الفائزين بجوائز نوبل. وتنتهز مختلف القنوات الإعلامية الفرصة لتوجيه وابل من الأسئلة إلى الحاصلين عليها، وتطلب إليهم سماع آرائهم في كل شيء بدون تحفّظ، وكأنهم عباقرة يلّمون بكل الاختصاصات العلمية، في حين أن عمل كلّ منهم كان مُركزا على مسألة معينة دون سواها. ولذلك يتيهون في أجوبتهم عن كثير من الأسئلة.

وهذا الواقع هو الذي جعل الجراح الأمريكي المتخصص في السرطان ديفد غورسكي David Gorski  يتحدث عام 2012 عن “متلازمة” سمّيت “مرض نوبل” أو “مرض المُنَـوْبَل (أي الحاصل على جائزة نوبل” Nobel disease). إنها ظاهرة تجعل عددا من الفائزين بجائزة نوبل يفتون في كل علم رغم أنهم نالوا الجائزة بعد تفوّقهم في فرع علمي دقيق. وهذا لا يعني أن هذا التفوّق يمسّ العلوم الأخرى.

ومن الأمثلة التي يقدمها المتتبعون بخصوص المصابين بهذا المرض، الفرنسي لوك مونتانييه Luc Montagnier الحاصل على جائزة نوبل، والذي أثارت مواقفه اللاعلمية خلال السنوات الأخيرة جدلا كبيرا حيث أصبح يقحم نفسه في مسائل كثيرة من دون روية.

الجائزة الجماعية

في بداية القرن العشرين، حين تم تحديد قواعد منح جائزة نوبل، كان العلم يتميّز بكونه نشاطًا فرديًا يقوم به الباحث منعزلا عن غيره، ولا تقوم به جماعة متعاونة. وكان مضمونه متواضعا إلى حد كبير مقارنة بما هو عليه الآن. وقد دأبت هيئة نوبل -وكذلك تفعل هيئات جوائز علمية أخرى- على أن تطلب في كل عام، ترشيحات للجائزة من مؤسسات وباحثين ذائعي الصيت، وبوجه خاص تحديد أسماء أصحاب أبرز الاكتشافات لأن هؤلاء كانوا يعملون فرادى.

ولذلك كانت جوائز نوبل وغيرها من الجوائز تُمنح، خلال النصف الأول من القرن العشرين، في معظم الأحيان لشخص واحد. ومع التطوّر الهائل للعلم وتحوّل البحث العلمي من نشاط فردي إلى نشاط جماعي داخل المختبرات، أصبح منح جائزة لشخص واحد إثر توصله لاكتشاف معيّن استثناءً بسبب صعوبة التمييز، بل استحالته، بين من كانوا وراء أي اكتشاف.

ولما كانت جائزة نوبل لا تمنح لأكثر من ثلاثة أشخاص، فقد أصبح الاختيار صعبًا بشكل متزايد، ذلك ما يخيّب آمال أولئك الذين يشعرون بأنهم يستحقون هذه الجائزة.

وما من شكّ في أن هيئة جائزة نوبل تواجه صعوبة جمّة عند البت في اختيار الاكتشافات التي تستحق الفوز من بين العدد المتزايد من الاكتشافات. وهذا ما أدى إلى ارتفاع متوسط ​​عمر الفائزين بجائزة نوبل بمرور الوقت. فقد قفز هذا العمر من نحو 55 سنة في النصف الأول من القرن العشرين، إلى أكثر من 65 سنة. وبدءًا من عام 1975، تجاوز الكثير من الفائزين بالجائزة سنّ 75 سنة، بل نال أحدهم الجائزة وعمره 97 سنة. ونظرًا لأنه لا يمكن منح الجائزة بعد الوفاة، يبدو أن هيئة الجائزة تراعي هذا الجانب عند اتخاذ القرار باعتبار أن الشباب مازالت أمامهم حظوظ أكبر للفوز بالجائزة في وقت لاحق.

ومع انتشار العمل الجماعي في مجال البحث العلمي الذي دعمته كثافة التعاون الدولي، فقد أصبح من الأهمية بمكان إعادة النظر في شروط قواعد منح جوائز نوبل. ويتمثل أحد الحلول لهذه المشكلة في تطبيق قواعد جائزة نوبل للسلام على جوائز العلوم: منح الجائزة لمجموعات من الباحثين أو المنظمات والمختبرات. إن التخلص من القيد الذي يفرض ألا يتجاوز عدد الفائزين ثلاثة أشخاص سيكون بمثابة الاعتراف بواقع العلم المعاصر المرتكز على العمل الجماعي. والواقع أن ذلك سيؤدي بلجنة جائزة نوبل إلى التركيز بشكل أكبر على الاكتشافات وفوائدها الاجتماعية والثقافية والعلمية بدلا من التركيز على الجهد الفردي للباحثين.

خلاصة الكلام في هذا الموضوع أن العلماء والباحثين يلاحظون أن هذه الجائزة لم تعد اليوم تعكس طبيعة التقدم الذي يحرزه العلم سنة بعد أخرى. لذا حان الوقت لتحديث آليات هذه الجائزة وشروطها.

belowarticlecontent
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى